أعلان الهيدر

الجمعة، 4 يناير 2019

الرئيسية مقال: "الحامة" التونسية أرض الزعماء.. يذكرها التاريخ و تسقطها الجغرافيا

مقال: "الحامة" التونسية أرض الزعماء.. يذكرها التاريخ و تسقطها الجغرافيا


"الحامة" التونسية أرض الزعماء.. يذكرها التاريخ و تسقطها الجغرافيا

المزيانة نت | الحامة المزيانة | "وحللنا الحمة فرأيت مدينة حاضرة تحف بها غابة من نخل تحمل حمله، وجميع مياه هذه المدينة شروبة، وهي في غاية السخانة، وبسخانة مائها سميت الحمة.. والحمة في اللغة هي العين التي بمائها سخانة، وكان عليها سور مرتفع رأيت مواضع منه تهدمت، ورأيت في قصبتها قناة ماء يتسرب إليها من خارجها في غاية القوة، وقد بنيت عليها حمامات جاءت في غاية الظرف والحسن" كان هذا ما جاء في كتاب "رحلة التيجاني" في القرن الثامن هجري عن الحامة و هي أحد مدن الجمهورية التونسية ، تتبع إداريا ولاية (محافظة) قابس بالجنوب الشرقي،نحو 450 كلم جنوب العاصمة تونس، سكّانها و كما يقول المؤرخون، من العرب الوافدين من شمال و جنوب الجزيرة العربية خاصة قبائل بنو هلال و بنو سليم و بني زيد و هو ما يفسّر محافظة أهلها على لهجة عربية أقرب ما تكون إلى اللهجة الخليجية.

لهذه المدينة صغيرة المساحة، تاريخ نضالي كبير على المستوى الوطني ،فقد أنجبت الكثير من الإعلام والعديد من رواد الفكر والادب ومن أشهر هؤلاء "الطاهر الحداد" صاحب كتاب «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» الذي أثار حفيظة شيوخ الزيتونة إبان صدوره، والطاهر الحداد الذي ولد سنة 1899، وهو كذلك إلى جانب دعوته لتحرير المرأة منذ عقد العشرينات من القرن الماضي، كان من مؤسسي جامعة عموم العملة التونسيين (أول منظمة نقابية تونسية) وهو من رواد الإصلاح الاجتماعي.. ونذكر من أبناء الحامة كذلك "محمد علي الحامي" المولود بهذه المدينة الصغيرة سنة 1890، وهو أول من أسس منظمة نقابية عمالية في أفريقيا والعالم العربي، وقد توفي هذا النقابي سنة 1928 بالسعودية..

أما من ناحية النضال الوطني ضد المستعمر الفرنسي، فإننا نجد "محمد الدغباجي"الذي كان رمزا لإرهاصات المقاومة المسلحة للاحتلال الفرنسي لتونسو ظلّ بطل هذه المقاومة في المخيال الشعبي إلى اليوم، وقد ولد هذا الرجل سنة 1885 بالحامة، وانضم إلى صفوف المقاومة خلال الفترة الممتدة بين 1915 و1918 وخاض معارك بطولية.. وانضم سنة 1920 إلى المناضل عسكر في ليبيا المجاورة، ووقع في الأسر الإيطالي سنة 1922 فسلمته إيطاليا إلى فرنسا التي أعدمته في غرة مارس (آذار) 1924.. و "للدغباجي" تأثير على الذاكرة الشعبية، بحيث لا تخلو أغاني ذكر السير الملحمية والبطولية من التذكير ببطولاته إلى حد الآن..

 ومن هذه المدينة الصغيرة كذلك يمكن أن نذكر "الطاهر الأسود" الذي ولد بالحامة سنة 1913، وانخرط في النضال السياسي مع "عبد العزيز الثعالبي"، فبعد انتهاء مدة خدمته العسكرية، رفض الانضمام إلى الجيش الفرنسي، وكان المبادر بإعلان الثورة المسلحة بتونس وقيادتها من 1952 إلى 1954، وهو الذي كون جيش تحرير تونس في 1956 سنة الاستقلال عن فرنسا، كما تولى كذلك قيادة جيش تحرير شمال أفريقيا.. وتوفي هذا الرجل في 20 مارس (آذار) وهو تاريخ استقلال تونس نفسه من سنة 1996 ودفن بمقبرة الشهداء بالحامة.. كما يذكر التاريخ لهذه المدينة أن ابنها الجلولي فارس المولود سنة 1909 كان رئيسا للمجلس القومي التأسيسي بعيد الاستقلال، وترأس مجلس الأمة (نواب الشعب)وتوفي سنة2001.

كما نذكر "نورالدين بن خضر" وهو أحد أبرز أعلام التجربة السياسية المعارضة للنظام البورقيبي في إطار مجموعة "آفاق" و أحد أهم رموز اليسار الديمقراطي، كذلك  "الهادي الزريبي" الذي كان من بين رموز كثيرة للتيار القومي في تونسساهم فيه خاصة من خلال كتاباته و مقالاته الصحفية .و "عمار العربي الزمزمي" : أحد قيادي منظمة "العامل التونسي" سجن من أجل الانتماء إليها سنوات طويلة عاد إثرها إلى المساهمة في الأنشطة الفكرية و الاجتماعية بمدينة الحامة . كذلك  "البشير العربي" أحد رموز الحركة الطلابية في أواخر السبعينات و بداية الثمانيات في إطار الهياكل النقابية المؤقتة للإتحاد العام لطلبة تونس،كما أنجبت الحامةرموز كثيرة للحركة الإسلامية نذكر منهم بطبيعة الحال رئيس حركة "النهضة" حاليا "راشد الغنوشي" ..الحامة مدنية لها بعدها التاريخي، كانت ومنذ فجر التاريخ قلعة للأسود ضدّ المستعمر والغازي والظالم و المستبد

تاريخ نضالي حافل قديم قدم هذه المدينة لا أحد ينكره حتى الذين أسقطوها من برامجهم التنموية على امتداد عقود من الزمن، فبقي الفقر وواقع التهميش والبطالة وغياب المرافق الضرورية وتفشّي الأمراض القاتلة الناتجة عن الصناعات الاستخراجية والتلوّث البيئي الذي يكتم أنفاس الأهالي، هو سمة هذه المدينة كغيرها من مدن الجنوب التونسي، تمتصّ ثرواته الطبيعيةوتغرف منها الأنظمة والحكومات المتعاقبة منذ ما قبل الاستقلال ولا تترك لأبنائها الاّ الفتات في غياب كامل لمنطق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة.

و تتضارب الإحصائيات الرسمية حول نسبة الفقر في تونس، حيث تقول آخر الإحصائيات إن نسبة الفقر بلغت15.7 بالمائة مقارنة بنسبة 15.5 في سنة 2013 ، فيما بلغت نسبة الفقر المدقع 5.6 بالمائةمما يعني أن النسبة الجملية للفقراء تناهز 21.1٪منذ بداية هذه السنة.لكن هذه المعدلات العامة تخفي تفاوتا في الفقر بين الجهات والمتضرر الكبير منها بالخصوص الجهات الجنوبية للبلاد ذلك أن الفقر في الجنوب الغربي بلغ 31.5% و بالجنوب الشرقي 28.9 %.

و بعيدا عن الأرقام و المؤشرات الرسمية حول نسب الفقر في تونس، يبرز مشكل التلوّث و خاصة منها مادة "الفليور" المنبعث من المجمع الكيميائي و من مصنع الإسمنت المتمركز بالمنطقة،كأحد أكبر المشاكل التي تهدّد سكان ولاية قابس عموما و منهم أهالي مدينة الحامة،حيث أثرت بصفة مباشرة على غابات النخيل ومست المائدة المائية واصابت السكان بالاختناق و قد أثبتت دراسة قامت بها وزارة الصحة التونسية بالتعاون مع لجنة جهوية للصحة والسلامة المهنية بإجراء تحاليل متنوعة (بولية ودموية) وصور بالأشعة لأكثر من 1200 شخص شملت مختلف مناطق قابس لمعرفة نسبة "الفليور" في الجسم فكانت النتائج مُرعبة وتدعُو الى دق نواقيس الخطر باعتبار ان هذه المادة تسبب أمراضا عديدة كضيق التنفس وهشاشة العظام والسرطان والامراض الجلدية. ويتعدّى تأثيرها الى الأجهزة الهضمية والتناسلية.

وقد اقر المعهد الوطني للصحة والسلامة المهنية بوجود هذه الأمراض المهنية الناتجة عن التلوث ،لكن الاشكالية الأساسية في عدم تطبيق القوانين و التشاريع الوطنية والدّولية التي أمضت تونس عليها باعتبارها ضمانا للأجيال القادمة تمكنها من العيش في بيئة سليمة . لكن المجمع الكيمائي يستمرّ في العمل وضخ الأموال للدولة وأهالي الحامة يستمرُّون في معاناتهم من التلوّث القاتل ومن الفقر الذي يبلغ أعلى مستوياتها إبان ثورة 14 يناير.

يؤكد لنا فلاحة مدينة الحامة ان غابات النخيل كانت مورد رزق عديد العائلات وكانت تجعل من المدينةجنة على وجه الارض يستظل المسافر بظلها وتمير المناطق المجاورة بتمورها وتدر على اهلها رزقا واسعا وتضافرت عوامل عديدة أدت الى هجر القابسلغابته وزاد التلوث في الابتعاد عنها بعد ان اصبح منتوج النخلة غير مرغوب فيه فلم تعد النخلة تغطي مصاريف صاحبها فضلا عن الربح.

يحدثك اهالي الحامةوخاصة كهولها وشيوخها و بمرارة القول، عما كانت تتمتع به هذه الجهة من مناظر طبيعية خلابة تجمع بين الصحراء والواحة والبحر وقد ذكر ذلك في كثير من ادبيات الرحالة والجغرافيين القدامى سواء كانوا رحالة سياسيين او إداريين مكلفين بمهام مختلفة او رحلات لاداء فريضة الحج باعتبارها معبرا يصل الغرب بالشرق فتحدث عن جمال هذه المنطقة كثيرون ومن بينهم ابن حوقل والمقدسي وابن بطوطة والتيجاني وابن الفقيه وقدامة ابن جعفر والاصطخري وغيرهم كثير بما جعلها حسب بعضهم جنة على وجه الارض يطيب فيها العيش ويقصدها الناس من كل مكان للراحة والاستجمام.

غالبا ما ارتبط التقصير و التهميش بالجنوب في أدبيات الجغرافيا السياسية و الاقتصادية، مرورا من دول نامية تقع في جنوب الخارطة السياسية للعالم و لعلّ من أبرزها دول الشرق الأوسط ،وصولا إلى كثير من المناطق الجنوبية في عدد من الدول العربية كالصعيد المصري و الجنوب الليبي الصحراوي و الجنوب التونسي "أين نقف نحن الآن" و أين انطلقت منه شرارات الكفاح ضدّ المستعمر الفرنسي و أين انطلقت شرارة الثورة التونسية و أهدت "الربيع العربي"و كأن قدر أبنائها أن يكونوا حطبا لا غير،يذكره التاريخ و تتناساه الجغرافيا.
المصدر: بوابة افريقيا الاخبارية 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.