أعلان الهيدر

الخميس، 2 مايو 2019

الرئيسية تلخيص مسألة الانية و الغيرية مادة الفلسفة جميع شعب البكالوريا

تلخيص مسألة الانية و الغيرية مادة الفلسفة جميع شعب البكالوريا



الإنية و الغيرية مادة الفلسفة باكلوريا أداب .. بكالوريا علوم .. بكالوريا علوم اعلامية .. بكالوريا رياضيات .. بلكالوريا اقتصاد و تصرف .. بكالوريا رياضة
تندرج مسالة الآنية والغيرية في إطار مسألة أعم هي مسألة الإنساني بين الكثرة والوحدة. وهذه المسألة تتحرك بدورها في سياق مطلب الكونية. ذلك أن تحديد الإنسان يفترض إنتاج تعريف كوني يشارك فيه كل الأفراد، لكن هل أن هذه المشاركة تتم على نفس النحو؟ أم هل أن كلّ فرد يشارك في الكلّي بطريقة خصوصية؟
أفلاطون " الإنسان هو النفس" "الجسد قبر للنفس"Platon
يقرّ أفلاطون أن كمال الوجود الإنساني أي إنية الإنسان تتحقق بالنفس وحدها ذلك أن أفلاطون يتبنى موقفا ثنائيا إذ يفسر الإنسان بإرجاعه إلى مبدأين مختلفين:
* مبدأ روحاني هو النفس التي تتحدد تماما مثلما سيكون الأمر عند أرسطو باعتبارها مبدأ حركة

*مبدأ مـــادي هو الجسد.

ويختزل الإنسان في بعده الواعي و يقر بأن النفس تتحكم كليا في الجسد
وخصوصية أفلاطون تتمثل في إقراره بأن النفس جوهر في حين يمثل الجسد عرض. لذلك يختزل أفلاطون الإنسان في بعده الواعي ويقصي الجسد من ماهية الإنسان، إذ أن الجسد بالنسبة إليه عاطل عطالة كاملة فالنفس هي التي تحرّكه وهو مصدر رذيلة ويمثل عائقا يعوق النفس في عملية صعودها نحو عالم المثل.
أرسطو Aristote
يطرح أرسطو مشكلة علاقة النفس والجسد في إطار فهمه لعلاقة الصورة بالمادة أو إن شئنا الدقة علاقة الصورة بالهيولى (الهيولى هي المادة اللامتشكلة). و من هذا المنطلق فإن الإنسان سيكون إنسانا بصورته أي بنفسه، فالنفس أو الروح هي ما يمثل حقيقة الإنسان. فتماما كما تشكل الصورة المادة، تشكل النفس الجسد وبالتالي فإن أرسطو يختزل الإنسان في بعده الواعي و هذا ما يظهر بجلاء في إقراره بأن الإنسان حيوان عاقل. و هذا المنظور الأرسطي الذي يفهم الإنسان على شاكلة فهمه لعلاقة الصورة بالمادة جعله ينتهي إلى تحديد النفس بما هي مبدأ حركة. و عن هذا التحديد تنتج نظريته الشهيرة حول الأنفس الحيوانية.
ابن سينا Avicenne
موقف ابن سينا من مسألة الإنية يتلخص في برهان الرجل المعلق في الفضاء إذ هو يفترض أن الإنسان ولد دفعة واحدة فخلق يهوي في الفضاء دون أن تكون لأعضائه إمكانية التقاطع، و لكنه مع ذلك يستطيع أن يثبت ذاته موجودة. و من هذا البرهان يستخلص ابن سينا أن النفس هي الإنسان عند التحقيق و ان الجسد لا يمثل حدا في ماهية الإنسان. ذلك أن ابن سينا تماما مثل أرسطو و أفلاطون يقرّ بأن النفس العاقلة هي ما يؤسس حقيقة الإنسان و ماهيته، فالأنا يدرك ذاته دون أن يكون في حاجة إلى أيّ علة خارجة عنه سواء كانت جسدا أو أي شيء آخر خارجي.
ديكارت Descartes
لإثبات وجود الذات ينطلق ديكارت من تجربة الشك. إذ أن ديكارت يشك في كلّ شيء يجد فيه مجرّد تردّد وهكذا لا يترك الشك مجالا دون أن يطاله. إلا أن هذا الشك الذي طال كلّ شيء لا يستطيع أن يخامر الحالة التي أكون فيها بصدد الشكّ. فديكارت يستطيع أن يشك في كلّ شيء إلا في كونه يشك لأن الشك في الشك لا يقوم إلا بتدعيم الشك. و هكذا يأتي الشك على كلّ شيء إلا على اليقين الذي يتضمنه، يقين الذات بذاتها موجودة كفكر أي يقين الكوجيتو.
وخصوصية ديكارت تتمثل في كونه على خلاف أفلاطون وأرسطو يحدد النفس كفكر لا كمبدأ حركة وبالتالي تماما مثل أرسطو وأفلاطون يعتبر أن النفس جوهر ولكنه على خلاف أرسطو وأفلاطون يعتبر أيضا أن الجسم جوهرا من جهة كونه مستقل بذاته إذ أن حركة الجسم لا تفسرها النفس وإنما هي حركة آلية ميكانيكية نابعة من طبيعة الجسد ذاته كامتداد مادي.
أفلاطون، أرسطو، ابن سينا و ديكارت يثبتون إذا الإنية بإقصاء كلّ أشكال الغيرية داخلية كانت أم خارجية فلا الجسد ولا العالم الخارجي يحددان ماهية الإنسان.

ومن هذا المنطلق تتحدد الذات باعتبارها واقعا ميتافيزيقيا، باعتبارها المعنى المؤسس للإنسانية والأنا ليس إلا الوعي بوحدة الذات التي تربط وتجمع بين حالاتها المختلفة وأفعالها المتعاقبة في الزمان. والذات عند هؤلاء الفلاسفة تتحدّد في نهاية المطاف باعتبارها الجوهر وهو التحديد الذي أقرّه أرسطو بما أن الذات كجوهر تسند إليها كل الخصائص والأعراض بما في ذلك الجسد.
سبينوزا Spinoza
يمثل موقف سبينوزا أول موقف فلسفي يرد الاعتبار للجسد في تحديد الإنية ولكن أيضا موقف يسعى إلى إقحام الإنسان في الطبيعة و في العالم عبر سلب الامتيازات الميتافيزيقية التي أضفاها التصور الثنائي على الإنسان.
ذلك أن سبينوزا على خلاف أرسطو و ديكارت يحدد الجوهر لا باعتباره المتصل بذاته ولكن باعتباره المسبب لذاته وهو ما يعني أنه لا يوجد إلا جوهر واحد هو الله أو الطبيعة، و أنّ هذا الجوهر يتكون من عدد لا متناهي من الصفات وأن كلّ صفة من هذه الصفات تتكوّن من عدد لا متناهي من الضروب أو الأحوال Modes.
وهذا يعني أن كلّ ما يوجد هو إما ضرب من ضروب صفة الامتداد و إما ضرب من ضروب صفة الفكر و إما ضرب من ضروب أحد الصفات الأخرى التي لا يعرفها الإنسان و إما علاقة ضريبة بين ضربين و هو حال الإنسان. و هذا يعني أن الوحدة بالنسبة لسبينوزا تتمثل في الجوهر الواحد في حين تمثل الصفات اللامتناهية وضروبها الكثرة. و الضروب بما فيها الإنسان تتحدد كانفعالن أي كرغبة في المحافظة على البقاء (كوناتوس). و الصراع الذي كان يتحدث عنه ديكارت داخل الإنسان، بين العقل والانفعالات، أصبح مع سبينوزا صراعا خارج الإنسان، صراع كلّ الضروب من أجل المحافظة على البقاء.
الجسد مع سبينوزا يتماهى مع النفس في مستوى الماهية بما أن "النفس والجسد شيء واحد" تارة ننظر إليه من جهة صفة الفكر وطورا ننظر إليه من جهة صفة الامتداد، و يتماهي معها في المستوى الانطولوجي بما أن كلّ من النفس والجسد يمثل ضربا أو حال، و يتماهى معها في مستوى القوة والفعل بما أنّ فعل النفس هو فعل الجسد وهو الفعل الذي ينحو إلى المحافظة على البقاء.
مع سبينوزا إذا لا أنية دون الغيرية الداخلية والخارجية معا، فالإنسان يتحدد بوعيه وجسده ويتحدد كرغبة تتطوّر في العالم أو الطبيعة.
مارلو بونتي M.Merleau-ponty
إنّ تجاوز سبينوزا لثنائية النفس والجسد يبقى رهين الإقرار بالحلولية لذلك تتقدم الفينومينولوجيا مع مارلوبونتي وهوسرل كردّ فعل ضد الثنائيات التي أنتجها الإرث الديكارتي بين الشيء والفكرة، الموضوع والذات والجسد والنفس... وردّة الفعل هذه كانت بالعودة للوجود في العالم لاستكشاف ارتباط الجسد بمختلف سجلات القصدية بدأ بالإحساس ووصولا إلى الحكم. فالجسد بالنسبة لمارلوبونتي لا يمكن اختزاله في كونه مجرّد تراكم الوظائف و الميكانيزمات التي تصفها الفيزيولوجيا، فالجسد هو أكثر من مجرّد العضوية الارتكاسية التي تتمثله فيها الفيزيولوجيا، ذلك أنني لا أستطيع أن أفهم علاقة النفس والجسد في الإنسان إذا كنت أعتبر الجسد مجرّد موضوع لأن هذا الجسد الموضوع هو جسد الآخر كما أراه، إنه هذه الجثة الهامدة التي يشرحها طلبة الطب في غرفة التشريح، في حين أن جسدي الخاص لا يدرك مثلما تدرك المواضيع الخارجية بل إني أعيش حضوره الحي من الداخل. و الجسد المعيش على هذا النحو يتقدّم منذ الوهلة الأولى باعتباره غير قابل للاختزال في الجسدية فحسب، إذ هناك تطابق بين حالاتي المختلفة وضروب وجود جسدي. فنحن مع الفينومينولوجيا لم نعد إزاء جسد ملطخ بنقص ما، إذ نكتشف أن الجسد ذات و أن الإنسان واحد و ما كان يسميه ديكارت جسما ليس إلا الشخص الموضوع أي الإنسان كما يبدو في الفضاء وفي نظر الآخر، و ما يسميه ديكارت نفسا ليس إلا الشخص الذات أي ما يمثله الإنسان بالنسبة للأنا وهو ما يسميه مارلوبونتي بالجسد الذات.
ردّ الاعتبار للجسد مع مارلوبونتي مرفوق باستحضار العالم كآخر يمثل شرطا لتحقيق الانية، لأن الوعي المتجسد يتحدّد في علاقته القصدية بالعالم إذ يتحدّد الوعي مع الفينومينولوجيا باعتباره فعل التمعين بما أن كلّ وعي هو وعي بشيء ما، و هكذا فإن الوعي ليس كما اعتقد ديكارت داخلية محضة وبسيطة، فالوعي ليست له محتويات بما أنه الفعل الذي نقصد به الموضوع، و بما أن هناك طرقا مختلفة للتوجّه نحو الموضوع فإنه يجب أن نتحدث مع الفينومينولوجيا على أصناف الوعي : وعي مدرك، وعي راغب، وعي متخيل، وعي مندهش...و العالم من هذا المنظور هو مجموع معاني، و بالتالي لا يمكن أن يوجد وعيا نظريا بالذات، و بما أن علاقة الوعي بالعالم هي علاقة ديناميكية فلا نستطيع أن نفهم العالم دون وعي و لا نستطيع أن نفهم وعي دون عالم، فلا يوجد عالم إلا بالنسبة للوعي ولا يوجد وعي إذا لم يكن وعي عالم.
ماركس Marx
إذا كان سبينوزا ومارلوبونتي قد استعادا الجسد والعالم كأشكال من أشكال الغيرية في تحديد الإنية من زوايا مختلفة، من زاوية الجوهرية والرغبة بالنسبة لسبينوزا ومن زاوية القصدية والمنظورية بالنسبة لمارلو بونتي، فإنّ ماركس يستحضر الغيرية من زاوية تاريخية. فالوعي بالذات بالنسبة لماركس ليس متعاليا وليس مستقلا بذاته بما أن الوعي هو انعكاس للواقع الاجتماعي التاريخي، فالوعي مكتسب ومتطور، مكتسب لأنه يعكس علاقة مع الواقع الطبيعي تتحدّد بالفعل في العالم وتشكيله من أجل المحافظة على البقاء و التكيف مع المحيط الخارجي، فالانسان لا يعيش إلا من الطبيعة و لكن من الطبيعة المشكلة وفي كلّ نشاط مشكل للطبيعة يشكل الإنسان ذاته، هذا يعني أن الإنسان يحقق إنسانيته و يكتسب وعيه بواسطة العمل، و تقسيم العمل هو ما يفسر تطور الوعي، لذلك تنعت نظرية ماركس في فلسفة التاريخ بالمادية التاريخية. إذ يرى ماركس أن وسائل الإنتاج هي التي تحدّد ضروب الوجود الإنساني، و الحياة المادية للبشر تفسر كلّ الأنشطة و تحدّد سيرورة الإنسان. و من هذا المنطلق يجب أخد فعل القوى المنتجة بعين الاعتبار لفهم التاريخ، و القوى المنتجة تمثل مجموع الوسائل المادية وكلّ أصناف القوى التي بحوزة المجتمع الإنساني، و الوعي من هذا المنطلق هو البنية الفوقية المتولدة عن العلاقة الاجتماعية المحكومة بعلاقات اقتصادية. و هكذا فإن الوعي عند ماركس هو وليد نشاطه المشكّل للطبيعة في التاريخ و شوبنهاور لا يستحضر فقط معنى التاريخ العالم أي تاريخ الإنسان و الإنسانية بل أيضا التاريخ الفردي أي السيرة الذاتية لكلّ فرد وهو كذلك المظهر الذي يستدعيه فرويد في مستوى فهمه لبنية الجهاز النفسي.
فرويد Freud
إن إضافة فرويد تتمثل في اكتشافه للاشعور، أو تفطنه لانبجاس الغيرية داخل الانية، إذ يتقدم اللاوعي باعتباره الآخر الذي على الوعي أن يتسع لاستيعابه. و هو ما يعني أن إقرار فرويد بأهمية اللاوعي في تركيبة الإنسان ليس اقصاءا كليا للوعي بما أن الوعي يبقى المجال الذي يمكننا من إدراك اللاوعي إذ أن اللاوعي يتمظهر في الوعي الذي يفسره. و هكذا يبرز فرويد وهم اختزال الإنسان في بعده الواعي فالإنسان لا يتحدّد إلا في إطار هذه الكثرة الداخلية التي تتجاوز الإقرار الميتافيزيقي بوحدة الأنا إذ تنكشف نفسية الإنسان متعددّة بل مركبة من منظمات ذات رغبات متناقضة منظمات تنزل هي ذاتها في التاريخ بما أنها تتطور في السيرة الذاتية لكلّ فرد ولكن أيضا تتمثل معطيات عامة ترتبط بالتاريخ الحضاري الإنساني العام مثل ما يتمظهر ذلك في العقد الكونية التي تحدث عنها فرويد عقدة أوديب وعقدة الخصي...
سبينوزا، مارلوبنتي، ماركس و فرويد بيـّنوا إذا وهم الاعتقاد في إمكان تحقيق الإنية بإقصاء كلّ أشكال الغيرية فأنا لا أستطيع أن أتحدث عن وجود كامل للذات إذا ما استبعدت الجسد والعالم والتاريخ واللاوعي، لا إنية إذا دون غيرية، ذلك ما يقره هيقل بشكل واضح وصريح عندما اعتبر أن فعل الوعي بالذات في حاجة إلى وساطة الآخر.

هيقل Hegel
يرى هيقل أن فعل الوعي بالذات مثلما تحقق مع ديكارت كفعل انسجام مع الذات هو في الحقيقة فعل انشطار لأن الوعي بالذات بمعناه الديكارتي هو أساسا هذه العودة على الذات انطلاقا من الكيان الآخر، و الوعي يصل إلى منتهى هذه العلاقة عندما يدرك أن الذات والموضوع مبنيان بنفس حركة الانشطار هذه، بما أن ماهية الوعي بالذات في انعكاس الأنا على ذاته انطلاقا من إقصاء الآخر الذي يمثله الجسد والعالم الخارجي. و فعل انشطار الذات يتمثل في اعتبارها في ذات الوقت ذاتا عارفة و ذات موضوعا للمعرفة، و بما أن كلّ من الذات العارفة و الذات الموضوع يمثل ذاتا فإننا نكون إزاء ذاتين تدعي كلّ واحدة منهما أنها الوعي بالذات و أن الآخر هو الموضوع، و هذا يعني أن فعل الوعي بالذات لا يتحدّد إلا بواسطة الآخر لذلك يجب على الوعي بالذات أن يحافظ على الآخر إذا أراد أن يحقق وعيه بذاته كذات واعية. و لكن صراع الذاتين من أجل تحقيق نفس الرغبة يؤدي إلى تنازل أحد الحدّين على النظر إلى تعاليه بالنسبة إلى الآخر كشرط لتحقيق كيانه و بهذا التنازل ينتج اللاتوازن بين الحدين الذي تعبر عنه الجدلية الشهيرة السيّد والعبد، و في هذا اللاتوازن يحمل الوعي بذاته بذرة الفشل الذي سيكابده في هذه التجربة إذ أن الاعتراف المتبادل لا يتحقق بما أن السيد يحقق اعتراف وعي غير مكافئ له. وجدلية السيد والعبد رغم الفشل الذي انتهت إليه تبين لنا مع هيقل أن الآخر ضروري لتحقيق الوعي بالذات وأن كلّ تعالي على الآخر يؤدي إلى فشل الذات في تحقيق انيتها فوجودي هو بالضرورة وجود مع الآخر الذي ينافسني على الإنسانية هذا الكوني الذي ترنو إليه فرديتي و الذي يمثل في معنى ما حركة تضمين الفردية أو الخصوصية لذلك فإن علاقتي بالآخر تقوم بالضرورة في إطار وساطة ما، و هذه الوساطة يجب أن تكون محايدة وإلاّ يترك التواصل مكانه إلى الصراع.
إدقار موران Edgard Morin
يرى موران أن «العلاقة بالغير قائمة بالقوة في علاقة الذات بذاتها»، وهو إقرار يتأسس على الطبيعة المركبة للذات، من حيث هي انفتاح و انغلاق، بحيث أن الذات تحمل داخلها أنا آخر. وتجربة المرآة تثبت هذا الحضور، فالآخر هو نسخة مرآة للأنا من حيث هو ذات لها طبيعة مزدوجة. لذلك فإن معرفة الآخر ممكنة بالنظر إلى هذه الطبيعة المركبة للذات. و العلاقة بالآخر هي أيضا علاقة مركبة، فمن جهة كون الذات مركزا للعالم تكون العلاقة بالآخر سلبية، إذ يكون أساسها الخوف و الإحساس بالغربة مما يدفع الذات إلى إقصاء الآخر أو تدميره أو على الأقل الشعور بالعدوانية تجاهه : إنه عدو و يتعلق الأمر بإذابة الإختلاف لصالح الذات. ومن جهة كون الذات منفتحة تكون العلاقة بالآخر ايجابية أساسها التعاطف و التبادل و الحب : إنه صديق و الصداقة هي نوع العلاقة بالآخر التي تكتمل فيها الذات بالنسبة لموران. و هكذا فإن الحاجة إلى الآخر جذرية بالنسبة إلى الذات، خاصة وأن العزلة الباردة ليست إلا جحيما بما هي مناخ خصب لزرع علاقات العداوة مع الآخر.
قاستون برجيه Gaston Berger
إن الانسان لا يوجد لوحده،إذن ، وبقدر ماهو كائن عاقل، هو أيضا كائن اجتماعي، وهو ما يعني أن الآخر ضروري لوجود الفرد الإنساني. ولكن أمام الآخر نجد أنفسنا إزاء مفارقة : فالذات تلاقي الآخر باعتباره شبيها وفي ذات الوقت باعتباره ما لا تستطيع أن تتوحّد معه. إذ يبدو أن الآخر ورغم قربه مني يبقى غريبا عني حسب برجيه. ذلك أن إدراكي لذاتي موجودة، أي الوعي بالذات الذي يمكنّني من تحقيق إنيّتي، يمثل في ذات الوقت عائقا أمام التواصل الحقيقي بما هو توحد مع الآخر. وهكذا يكشف "برجيه" عن مفارقة الوجود الانساني فأنا أوجد مع الآخر ولكن عالمي الخاص، عالمي الحميم هو ما لايستطيع الآخر أن يشاركني فيه، وبالمثل عالم الآخر بما يتضمنه من حميميّة هو ما لا أستطيع اقتحامه. ذلك أن التواصل عند برجيه يعني ضرورة التوحّد مع الآخر بشكل يجعلني أعيش معه معيشه لا أن أقاسمه هذا المعيش من الخارج.
إن الفلسفة حسب "برجيه"، إذن، ليست مناسبة للعزلة فالفيلسوف عنده يرفض العزلة، إذ ان الحوار هو هدف أفعالنا لا الوسيلة التي تجعل أفعالنا ناجعة وتقدّم المعرفة يجب أن يكون مرفوقا بعملية تفسير تجتهد لتوضيح المعنى للآخرين ففيلسوف الفعل هو رجل يقبل الحوار يبحث عنه. و القيم الكونية تقتضي حسب برجيه الاختلاف رغم كون الوحدة لا يمكن أن تكون إلا مع المماثل، أي أن التواصل يقتضي الذاتية رغم كونها ما يجعل التواصل الحقيقي غير ممكن، ذلك أن الوجود الانساني مثلما بين ذلك، هو وجود الذاتية وجودا وحيدا ولكن غير معزول عن الآخر والانسان في وجوده مع الآخر لا يمكنه أن يتنازل عن التواصل رغم كونه لا يستطيع أن يشبع رغبة التواصل هذه .
2/الخصوصية و الكونية

تلخيص مسألة الخصوصية والكونية
تمهيد:
تندرج هذه المسألة في فضاء إشكالي عام هو مطلب الكوني باعتباره ما يوحّد الاختلافات الإنسانية على كثرتها وتعدّدها، يتعلق الأمر إذا بالنظر في إمكانية المصالحة بين الخصوصية التي تحدّد هوية الأفراد والمجتمعات والثقافات والكوني باعتباره مطمح إنساني في تحقيق الوحدة دون القضاء على التنوع وحق الاختلاف. فكيف يمكن إذا أن نتحدّث عن كوني إنساني في واقع اختلاف الأفراد واختلاف الثقافات؟ هل يمكن فعلا أن نحقّق هذا الكوني أم أن هذا الكوني يبقى مجرّد فكرة نظرية تفسد عندما يتحقّق؟ كيف يمكن أن نحقق هذا الكوني دون أن نقع في مشكل الانبتات؟ كيف نحافظ على الهوية دون الوقوع في الموقف الدغمائي الذي يؤدي إلى ادعاء خصوصية ما للكونية؟ كيف يمكن أن نحقق الكوني دون إدانة الخصوصية ودون الوقوع في فخّ الإقصاء وادعاء الكونية؟ وبالتالي كيف يمكن أن نستشرف أفق كوني يتحقّق فيه التواصل ضمن شروط ايتيقية ويراعي الخصوصية؟
- الخصوصية بين الإنغلاق والإنفتاح على الكونية:

يحيل مفهوم الخصوصية عموما على الهوية باعتبارها ما به يكون الشيء هو نفسه، وهذا التحديد للهوية ليس بعيدا عن معنى الإنية من حيث أنها تحيل إلى ما يميز الإنسان وما يعبّر به عن حقيقته من وجهة نظر ميتافيزيقية. بيد أن السؤال عن الخصوصية يحيل إلى الهوية من جهة ما يميز الإنسان بما هو كائن ينتمي إلى مجموعة أو مجتمع معين. وهذا يعني أن إشكالية الخصوصية والكونية تجعلنا نغادر نهائيا حقل الفردية المنغلقة على ذاتها إلى مستوى أوسع من الانفتاح على الغيرية في مختلف أشكالها وأبعادها الثقافية والحضارية.
والهوية الشخصية، من جهة كونها تحيل إلى ما تختصّ به الذات من تفرّد ووحدة والتي تشمل الوعي بالذات وتمثل الفرد لهذا الوعي، ليست إلا بعد من أبعاد الهوية التي يجب أخذها بعين الاعتبار دون التوقف عندها فقط، لذلك كان تحديد "لوك" للهوية الشخصية مختلفا عن تحديده للهوية الإنسانية. فالهوية الشخصية عند "لوك" هي الهوية المنظور لها من الناحية الميتافيزيقية والأخلاقية، وهي نظرة الذات لذاتها، نظرة داخلية ومتفردة لا يمكن التواصل حولها. فحين يوحّد "لوك" بين الوعي والنفس يعزل الوعي عن بقية العالم ويميز جذريا بين الهوية بالوعي، والهوية بأيّ شيء آخر غير الوعي أو الشخص لأن الوعي عنده هو الذي يحدّد الشخص، والشخص لا الإنسان الذي تكون هويته مثل الكائنات الحية مدركة من الخارج فلا الجسد إذا ولا اعتراف الآخر يتدخل في تحديد الهوية عند "لوك" وهكذا فإن الهوية الشخصية عند "لوك" تتحدّد باعتبارها الإحساس اللامنقطع للشخص بأنه هو وبعينه.
غير أن إيدغار موران يتناول مشكل الهوية من جهة تعقد وتنوّع مستويات الهوية الإنسانية، إذ أنه يرى أنّ التنوع بين الأفراد والثقافات يبلغ حدّا كبيرا إلى درجة أننا نحسب القول بالوحدة الإنسانية ضربا من التجريد. ذلك أن "موران" يعتبر الهوية مركبة من هوية شخصية وهوية اجتماعية وهوية ثقافية أي كهوية تدرك من الداخل ولكن أيضا كهوية يمكن التعرف إليها من الخارج وتمثل الأساس الذي يستمدّ منه أيّ مجتمع أو ثقافة اختلافها وتميزها عن مجتمع آخر أو عن ثقافة أخرى، فكيف يمكن إذا أن نحافظ على الهوية دون أن يلحق ضيما بما هو كوني؟
إنّ "ادغار موران" يريد فهم جدلية الوحدة والتنوع بما هي الأساس التفسيري للإنساني والثقافة على حدّ سواء، إذ يجب حسب رأيه أن ننظر في الوحدة من جهة كونها تنتج التنوع لا من جهة كونها تولّد التجانس وتقضي على التنوع كما يجب أن ننظر للتنوّع من جهة كونه ينتج الوحدة لا التنوع الذي ينغلق على ذاته فيقضي على الوحدة، ذلك أن السؤال عن الهوية عند "ادغار موران" لا يخرج عن سؤال ما الإنسان؟ وبالتالي السؤال عما هو إنساني في الإنسان، خاصة وأن السؤال عن الهوية كثرت المطارحات حوله في الوقت الراهن حيث أصبحنا شهودا مذعورين من المشاهد الوحشية التي تقدّمها وسائل الإعلام يوميا، فنتساءل عن طبيعة هذا الكائن القادر على الخير كما الشر إلى أقصى حدّ. لذلك يرى "إدغار موران" أن الثلاثية الإنسانية المتمثلة في الفرد والمجتمع والنوع تضع الفرد الإنساني في وضعية تسمح له في ذات الوقت بتكوين تنوع غير محدود ووحدة خصوصية، والعلاقات بين هذه الحدود الثلاث ليست فقط متكاملة بل هي أيضا متضادة وتمثل إمكانات صراع بين خاصيات بيولوجية وخاصيات ثقافية في سيرورة متعاودة وفي تولّد مستمرّ، ولذلك يرى "موران" أن الهوية الإنسانية تحمل في ذاتها شكل الوضعية الإنسانية لا بطريقة منفصلة أو متعاقبة ولكن بطريقة متزامنة. فالإنسان وفي ذات الوقت كائن عارف وكائن صانع... والهوية المركبة بهذا المعنى لا تذوب لا في النوع ولا في المجتمع بما أن الإنسان كذات أو كفرد لا يتعين فقط في الحوار مع ذاته ولكن يتعين أيضا في الحوار مع الآخر.
- الكوني بين الإيديولوجي والإيتيقي:

لكن هذا التصور المثالي لهوية مركبة تسمح بلقاء الإنسان بالإنسان في إطار تواصل، لا يعكس واقع البشر في كلّ العصور إذ بينت التجربة أن لقاء الثقافات كثيرا ما يؤدي إلى مجموعة من ردود الأفعال المرتبطة بالأحكام المسبقة التي عبر عنها لويس ألتوسير بطقوس الاعتراف الايديولوجي, بل وحتى الاثنية الثقافية، وإذا كان الانتماء إلى ثقافة ما يعني التواصل بطريقة خصوصية فإن الحوار بين الثقافات عليه أن يأخذ بعين الاعتبار ظاهرة الغيرية وأن يخضع إلى مقتضيات خاصة إذ ما ادّعت ثقافة ما الكونية وهو ما يتجلى في العولمة.
ذلك أن العولمة هي عملية اقتصادية في مقام أول ثمّ سياسية ويتبع ذلك الجوانب الاجتماعية والثقافية إذ هي عملية تحكّم وسيطرة تشغل إزاحة الأسوار والحواجز بين الدول، بل أنها تسعى إلى تحويل العالم إلى ما يشبه القرية حتى تسهل عملية السيطرة خاصة وأن العولمة من الناحية الاقتصادية تقوم على نشر الرأسمالية كنظام للتجارة وكنظام للإستهلاك وهي عملية يلعب فيها الإعلام دورا كبيرا خاصة وأن الإعلام والاتصال والمعلومات تمثل اليوم المكونات الأساسية في الاقتصاد العالمي، وفرض الرأسمالية على كل دول العالم تسبب في فقر الدول النامية وارتفاع مديونيتها مما أجبر هذه الدول على تقديم تنازلات سياسية واجتماعية. وهذا ما يضعنا أمام أهمّ الأسئلة على هامش علاقة العولمة بالهوية وهو سؤال يتعلق بالمكان فالمكان ضلّ على امتداد التركيبة السياسية التقليدية ممثلا في الدولة الوطنية، مكان مغلق على مجموعة من الفاعلين الحاضرين في علاقات تقوم وجها لوجه، هذا المكان أصبح اليوم مجالا كونيا مفتوحا لتفاعلات أبعد من نطاقه المحدّد، تفاعلات يدخل فيها أفراد غير موجودين بالمكان ذاته وأحداث لا تحدث بالمكان ذاته، مما يجعل التعايش بين العولمة والهوية أمرا محدودا للغاية ما دامت الهوية ترتكز على الخصوصية بينما تسعى العولمة إلى تجاوز هذه الخصوصية.
وهكذا يرى "سمير أمين" أن اندثار الحدود السياسية والثقافية والقانونية أمام العولمة المدعومة بوسائل حديثة للاتصال كالانترنات والفضاءات التلفزية... قد دمر آخر قلاع المقاومة للاكتساح الغربي والأمريكي بالأساس، إذ تتجاوز الهيمنة الأمريكية في العولمة الجانب الاقتصادي والسياسي لتشمل الجانب الثقافي أطلق عليه "سمير أمين" اسم ثقافة العولمة بما يعنيه ذلك من تعميم للقيم النفسية والعقائدية... الأمريكية على الأذواق والسلوكيات التي تشكّل المنظومة المتكاملة للخصوصية الحضارية لبقية شعوب العالم. والمدخل الأساسي لهذه الايديولوجيا الثقافية يتمثل في الإعلام الذي يتجاوز كلّ الأشكال التقليدية للتواصل والذي أنتج ثقافة جديدة، ثقافة ما بعد ما بعد المكتوب، ثقافة الصورة باعتبارها المفتاح السحري لثقافة العولمة. لذلك ينقد "سمير أمين" المثقفين العرب الذين تدور مناقشاتهم حول إشكاليات مفتعلة تتعلق بالحداثة والأصالة، لأن الثقافة بالنسبة لـ: سمير أمين، ليست منظومة صلبة وجامدة في الزمن والمسألة بالنسبة إليه يجب أن تطرح في إطار النسبية الثقافية أين تتحدد الثقافة باعتبارها مبدأ تكيف مع ظروف الحياة. وفي إطار هذه المنظومة للنسبية الثقافية يرى "سمير أمين" أنه بالإمكان تطوير ثقافة جديدة تجابه العولمة الثقافية وتحمي الهوية الثقافية من الهيمنة التي تفرضها أمريكا. المشكل إذا بالنسبة لـ"سمير أمين" لا يتعلق بالتهجم على الحداثة والكونية التي نظرت لها الحداثة مع "كانط" وإنما في مجابهة ثقافة العولمة.
ذلك أن كانط كان ينظر لإقامة سلم دائمة، كان يرى أنّ السلم بين الشعوب والثقافات والدول هو مشروع قابل للتحقيق لا بمعنى تغيير جذري في الإنسان ولكن بمعنى إنشاء الحق الذي سيكون خلاص سياسي للإنسان، فالسلم لا يكون إلا بتطبيق الحق ولا تكون شرعية إلا العلاقات سواء بين الأفراد أو الدول التي لا تقوم على العنف وإنما تقوم على الخضوع الحرّ لقانون مشترك. والكونية التي يتحدّث عنها "كانط" تتمثل في سنّ قانون سياسي كوني يحمي حق الغرباء، جعل كانط يدافع عن فكرة مواطنة عالمية بحيث يتمتع الفرد بحقوقه بطريقة مستقلة عن انتمائه الوطني والإقليمي. وهذا يعني أن الحق السياسي الكوني عند كانط هو إدانة لغطرسة الدول الاستعمارية وإدانة لكلّ أشكال التخوف من الغريب ولذلك فإن تأسيس حق سياسي كوني، يجعل من كل إنسان مواطنا للعالم لا مواطنا عالميا بمعنى تنكره لأصوله وثقافته، بحيث يكون الوعي بالمواطنة متسعا بحسب العالم كله. وذلك ممكن بالنسبة لكانط لانه يعتبر أن ما يجب على الإنسان فعله هو بالضبط ما يستطيع الإنسان فعله. ذلك هو معنى الحرّية الأخلاقية عنده، وذلك هو أيضا المطلب الإنساني الذي نظّرت له الحداثة مع كانط، وهو ايضا ما نظّر له هيغل في سياق مخالف تماما للكانطية عندما بين أن الفرد لا يتحرر من طبيعته المباشرة إلا عبر اغتراب الذات المشكلة، إذ بهذا الاغتراب يمكن للفرد أن يحقق اعتراف الآخرين به في بعده الإنساني النوعي ككائن ثقافي قادر على تحقيق كل أنواع الغايات.
ذلك أن الثقافة عند هيغل هي التحرر، إذ تمثل نقطة التحول المطلق نحو الروحاني السامي، والإرادة الفردية لا تتوصل إلى تحقيق الحرية إلا إذا تعالت على الرغبات و الدوافع الفردية، وهو ما يتحقق في سيرورة الثقافة باعتبارها سيرورة مشكلة للطبيعة الخارجية عبر العمل، و مشكلة في ذات الوقت للطبيعة المباشرة للإنسان. ودور الثقافة بالنسبة لـ "هيقل" باعتبارها كذلك، يتمثل في توسيع الخصوصي وتحقيق الكوني، وهكذا فإن الجدلية المركزية عند "هيقل" تتمثل في جدلية الجهوي كذات وجدلية الشامل كإجراء لا متناهي، ولذلك يرى "هيغل" أنه ليس هناك أي تعبير كوني ممكن للخصوصية كخصوصية. ومن هذا المنطلق الهيقلي يجب الاحتراس من الأطروحات الدارجة اليوم والتي تقرّ بأن وصفة الكونية تتمثل في احترام الخصوصيات لأن هذه الوحدة تقودنا إلى التمييز قبليا بين خصوصيات جيدة وخصوصيات رديئة، وتعتبر أن الخصوصية الجيدة هي الخصوصية التي تتضمن في ذاتها احترام الخصوصيات الأخرى وهو ما يعني أن الكوني عند "هيغل" لا يتقدّم كتقنين للخصوصي، أو للاختلافات ولكن كفرادة تملصت من المحمولات الهوية رغم كونها تشتغل في هذه الحمولات وبها.
لكنّ لا "كانط" ولا "هيغل" كروّاد للحداثة كان بإمكانهما أن يأخذا بعين الاعتبار أهمية العامل الاقتصادي في نشأة الحروب واندلاعها وهو ما تشهد عليه العولمة. ذلك هو المنطلق الذي جعل "بودريار" يعتبر أن الكوني كأطوبيا تغنت بالحداثة ونظّرت إليه يموت عندما يتحقق، لأن الكونية تفسد عندما تتحقق. ذلك أن العولمة حسب "بودريار" ليست شيء آخر غير الخصوصية المدعية للكونية، والثقافة الغربية التي كانت حبلى بالكوني، عندما جاءها المخاض ولدت العولمة فماتت بدورها. ولكن إذا كان موت الثقافات الأخرى موتا رحيما لأنها ماتت من فرط خصوصيتها، فإن موت الثقافة الغربية كان موتا شنيعا لأنها فقدت كلّ خصوصية عبر استئصال كلّ قيمها المثلى (الحرية، الديمقراطية، حقوق الانسان...) في إطار العولمة إذ أنّ الكوني "يهلك في العولمة".
- مشروعية الإختلاف:

إذا كانت العولمة تسير في اتجاه القضاء على الاختلاف كما أشار إلى ذلك "بودريار" فإن هذا الاختلاف يمثل بالنسبة لـ"كلود لفي ستروس" واقعا طبيعيا. إذ يلاحظ "كلود لفي ستروس" أن الحضارات والثقافات توجد في واقع الاختلاف إذ تتطوّر الإنسانية في ضروب متنوعة من المجتمعات والحضارات. والتنوع الثقافي يولّد بالضرورة تلاقحا بين الثقافات، فضرب وجود الثقافات يتمثل في وجودها معا، والالتقاء بين الثقافات إما أن يؤدّي إلى تصدّع وانهيار نموذج أحد المجتمعات وإما إلى تأليف أصيل بمعنى ولادة نموذج ثالث لا يمكن اختزاله في النموذجين السابقين. وهذا يعني أنه ليس هناك تلاقح حضاري دون مستفيد، والمستفيد الأول يسميه "ستراوس" بالحضارة العالمية التي لا تمثل في نظره حضارة متميزة عن الحضارات الأخرى ومتمتعة بنفس القدرة من الواقعية وإنما هي فكرة مجرّدة. والمشكل بالنسبة لـ"ستراوس" لا يتمثل في قدرة مجتمع ما على الانتفاع من نمط عيش جيرانه ولكن هو مشكل قدرة مجتمع ما على فهم ومعرفة جيرانه. ومن هذا المنطلق فإن الحضارة العالمية لا يمكن أن توجد إلا كفكرة من حيث هيّ "تحالف للثقافات التي تحتفظ كلّ واحدة منها بخصوصياتها. أما ما هو بصدد التحقق اليوم في ظلّ العولمة فليس إلا علامة تقهقر الإنساني والكوني، وإذا كانت الإنسانية تأبى أن تكون المستهلك العقيم للقيم التي أنتجتها في الماضي فإنه عليها أن تتعلم من جديد أن كلّ خلق حقيقي يتضمن رفضا ونفيا للقيم الأخرى، لأننا لا نستطيع أن نذوب في الآخر ونكون مختلفين في نفس الوقت لذلك ينقد لفي ستراوس فكرة التفوق الثقافي التي يعتبرها وليدة للحكم المسبق الذي تمثله المركزية الاثنية أي الميل إلى اعتبار ثقافتنا الخاصة نموذج للإنسان.
من هذا المنطلق ذاته سعى "غادامار" إلى تحديد شروط الحوار البناء بين الثقافات، و تتمثل هذه الشروط في النقاط التالية:
- اللامركزية: إذ علينا أن نقبل القيام بتجربة الأنت.

- قبول الدخول في لعبة اللغة التي تقتضي جملة من القواعد تتمثل أساسا في الدخول في لعب الآخر للقيام بتجربة الحوار.

- مراجعة نظرتنا للحوار: فالحوار حسب "غادامار" ليس حركة دائرية تحيل فيها الأجوبة إلى أسئلة مولّدة إلى أجوبة جديدة، إذ أن الحوار يشبه تجربة الفنّ الذي ينكشف إلينا كحدث مضيء والحقيقة التي تظهر لنا عندها بما هي حقيقة ممكنة تدفعنا إلى مراجعة منطلقاتنا إذ يتعلق الأمر بقبول التخلي عن الحقيقة النهائية و تحقيق تفاهم تأويلي يفتح على انفتاح المعنى و تعدده.

- اعتراف بدور العادات إذ علينا أن نتبين أن مواقفنا مبنية وفق العادة فنحن نعيش في مكان محدد و في فترة محددة و نتحرك في وسط معيّن و كل هذه العناصر تكون كياننا و الوعي التأويلي وحده ما يمكننا من الانفتاح على الحوار الحقيقي و النقد عبر التواصل.

3/النمذجة

تلخيص مسالة العلم بين الحقيقة والنمذجة
في دلالة النموذج العلمي:
تهدف النمذجة إلى إنتاج النماذج .والنموذج هو تمثل لكائن ما يوجد في الواقع ولكيفية اشتغاله من أجل التحكم فيه.فالنموذج هو تمثل لشيء أو معطى سواء كان واقعي أم اصطناعي.هذا المعطى الذي سيتم الاشتغال عليه ونمذجته يفترض فيه كونه بنية تتشكل من مجموعة من العناصر المتفاعلة فيما بينها والمكتفية بذاتها.النموذج بذلك هو بناء يضم وحدة من العناصر المتفاعلة والمنظمة وتحتكم إلى غاية أو هدف ما.إن النموذج لا يعيد تشكيل أو تصوير الكائن في صورته الواقعية. يعود النموذج إذا على أحد مجالات الواقع، إنسانية كانت أو مادية، من خلال تبسيطه وإعادة بنائه وتنظيمه في نموذج يسمح بفهمه ومن ثمة التحكم فيه.
يتحدد النموذج كتمثل للواقع وبعبارة أكثر دقة لأحد مجالات الواقع.النموذج بذلك ليس استنساخا للواقع أو استعادة له.إن مثل هذا الاستنساخ يضل مشروعا غير قابل للتحقيق وهو ما يعود لطبيعة الواقع ذاته القائمة على التعقيد والتركيب ،بما يجعل من الإحاطة به في كليته عملا مستحيلا.يتحدد النموذج بما هو اقتطاع لمجال مخصوص وجزئي من مجالات الواقع؛يقود هذا الاقتطاع "استراتيجيا الإهمال" أي الإغفال المتعمد للتداخل المميز للعناصر المكونة للواقع والاهتمام بمجال محدد منه .إن هذا الإهمال المتعمد هو الذي يجعل من الإحاطة بالواقع و فهمه ممكنا من خلال عزل معطيات وعناصر يرى المنمذج أنها لا ترتبط مباشرة بمجال اهتمامه ،وأن عملية عزلها لن تؤثر في قيمة النتائج التي يمكن التحصل عليها حتى ولو كانت ترتبط ارتباطا وثيقا بالمجال الذي يتم الاشتغال عليه.تقوم النمذجة،وإنشاء النماذج، إذن، على أساس فاعلية التبسيط التي تمكن من تجاوز عوائق التركيب والتعقيد والتداخل التي تعيق الفهم.
إن هذا التبسيط ليس تبسيطا عفويا ناتجا عن قصور في أدوات المعرفة ذاتها ، بل هو تبسيط متعمد أي عن وعي ونتيجة اختيارات واعية من طرف المنمذج .فالمنمذج يعلم جيدا أن دراسته لا تحيط بالواقع في كليته ولا تحيط بجميع عناصره وهو لا يعلن ذلك ولا يطمح إليه أصلا فهو يعلم جيدا أن النموذج الذي بناه لا يطابق الواقع في كل تفصيلاته ولا أن العناصر المكونة لنموذجه لا يمكن لها أن تحيل إلى عناصر عينية داخل الواقع يمكن العودة لها والتثبت من مدى تحقق المطابقة معها،في كل الحالات.
النموذج العلمي هو إذن إنشاء يتشكل من جملة من العناصر المترابطة والمتفاعلة موضوعها مجال محدد من الواقع تم تعيينه على أساس استراتيجيا الإهمال بما يجعل من فهم الواقع ممكنا بما يسمح من الفعل والتحكم فيه. فالنموذج إذن هو الوسيط بيننا وبين الواقع الذي لا يمكن إدراكه مباشرة نظرا لما يتميز به من درجة كبيرة من التعقيد والتركيب.
4/- الدولة 

تلخيص مسألة «الدولة : السيادة و المواطنة»
1- في دلالة الدولة

يخلط العديد من الناس بين الدولة و السلطة، و هذا الخلط مرده ممارسة الدولة للسلطة. لذلك يبدو من الضروري أن نميز بين السلطة و الدولة. فالدولة هي شكل من أشكال التنظيم السياسي الذي يمارس السلطة. في حين أن السلطة تتجاوز حقل الدولة و تمتد إلى مختلف مجالات الوجود الإنساني، فنحن نتحدث مثلا عن سلطة الطبيب أو سلطة الأستاذ... ويمكن أن نميّز بين ثلاث مقاربات في تحديد السلطة:
- المقاربة المؤسساتية: والتي تقوم على المماهاة بين السلطة والدولة، فنحن نندّد مثلا بالسياسة القمعية للسلطة، وبالتالي المماهاة بين السلطة والحكومة فنميّز مثلا بين السلطة والمعارضة. كما تقوم هذه المقاربة على المماهاة بين السلطة والإدارة فنتحدّث مثلا عن السلطات العامة.

- المقاربة الجوهرية: والتي تقود إلى اعتبار السلطة شيئا يمكن امتلاكه أو خسرانه، شيئا يمكن أن نوسعه وننميه أو حتى نسرف فيه ونبدده.

- المقاربة العلائقية أو التفاعلية: حيث لا تتقدّم السلطة كشيء ولكن كعلاقة، والتحاليل المعاصرة تسير في هذا الاتجاه وهو المعنى الذي يسير فيه "ميشال فوكو" عندما يقول :"ليست السلطة شيئا نكتسبه، شيئا ننتزعه أو نتقاسمه، شيئا نحافظ عليه أو نخسره، بل إنّ السلطة تمارَسُ من مراكز لا يمكن حصرها وفي لعبة علاقات لا متساوية ومتحرّكة".

و هذا يعني أن الدولة لا تجسّد كل أنواع السلطة في المجتمع، لذلك يرى فوكو أن السلطة باعتبارها ممارسة، لا يمكن أن تتحدد انطلاقا من تحليل أجهزة الدولة، فالسلطة مبثوثة في كل مكان و لا تتحدد إلا باعتبارها موضوع صراع : صراع من أجل السلطة، يسميه بالنديي بالمنافسة من أجل السلطة، و صراع ضد السلطة، يسميه الفكر السياسي المعاصر مراقبة السلطة. ذلك أن السلطة، عند فوكو، هي علاقات هيمنة لا تمارس إلا على رعايا أحرار، إذ ليس هناك تعارض جوهري بين السلطة و الحرية، و لكن يتعلّق الأمر بلعبة أكثر تعقيد، تتعلق بعلاقة إثارة متبادلة و استفزاز دائم. أما بيردو فيرى أن السلطة سابقة تاريخيا على الدولة بل أنها ساهمت في تشكيلها، و يلاحظ أن الدولة ساهمت في توسيع السلطة السياسية و تحديدها في ذات الوقت.
و التمييز بين السلطة و الدولة هو تمييز أظهرته بجلاء أعمال علماء الاجتماع و الأنتروبولوجيا. فالسلطة في المجتمعات البدائية تظهر أساسا في شكل قوة العادات و التقاليد التي يجعلها رئيس العائلة و رجل الدين محسوسة و عينية، و هذه السلطة العائلية و الدينية تعطى في مستوى ثان إلى رئيس مما يجعلها ذات صبغة فردية. لكن هذه السلطة البدائية تبقى عاجزة على تبرير ذاتها، فالسلطة الفردية للرئيس كانت غير قارة و تمثل موضوع تنافس و صراع. ذلك هو داعي نشأة الدولة بالنسبة لعلماء الاجتماع، إذ تظهر الدولة باعتبارها ممارسة لسلطة مستقلة عن شخصية الرئيس، يقول بيردو :« في الدولة تكون السلطة مؤسّساتية، أي أن شخص الحاكم لا يقوم إلاّ بممارستها، في حين أن الدولة هي المالك الحقيقي لهذه السلطة ».
و يرى هوبز أن الدولة تنشأ عبر التعاقد. فالدولة تمكن الأفراد من تحقيق الأمن و ضمان البقاء و تخلصهم من حالة الفوضى التي كانوا عليها في حالة الطبيعة. فعبر التعاقد تتحقق دولة الحقوق، حالة عقلانية يكون فيها القانون و الحق أساس العلاقات بين الأفراد. ذلك أن صراع الانفعالات قبل تأسيس الدولة يجعل الأفراد يعيشون فوضى مطلقة حيث يهيمن الحقد و العدوانية، و الأفراد يتعاقدون لتجاوز حالة الحرب المزرية التي تهدد بقاء كل فرد، لذلك يكون الانتماء إلى الدولة مع هوبز قرارا من قبيل حسن التقبل، رغم كون الدولة تمثل تنينا كبيرا أو الاها فانيا يتمتع بسلطة مطلقة.
أما روسو فقد كان يبحث عن الشروط التي تكون فيها الدولة شرعية، لذلك فإن فكرة سيادة الشعب لنفسه كانت فكرة مركزية في فكره السياسي، فما يسعى روسو إلى تأسيسه هو دولة قائمة على القانون. ذلك أن القانون و الحرية عنده متلازمان، و الدولة التي ينظّر لها روسو هي دولة ديمقراطية، يؤسسها على مفهوم الإرادة العامة و الحرية المدنية كماهية ميتافيزيقية للإنسان في الحالة المدنية. لذلك تنشأ الدولة عنده عن عقد يتعاقد فيه كل الأفراد دون استثناء، تتأسس الدولة على الحق لا على القوة مثلما هو الشأن مع هوبز.
و ما يمكن أن نستخلصه من هذه التحاليل هو فكرة وظيفة إيجابية للدولة. فالدولة أداة ضرورية لتجاوز العنف الطبيعي و الاعتباط السائد في حالة الطبيعة ( هوبز / لوك / هيقل )، إذ تمكن الإنسان من تجاوز عدم الاستقرار و الصراع لتمثل في أحشاء المجتمع عامل نظام يبني الاستقرار، فالدولة تسعى إلى تجاوز العنف و ضمان بقاء الأفراد. لكن الدولة تؤسس أيضا الحرية بما أنها تنظر في الصراعات انطلاقا من الحق و تحرر العبيد، تلك هي الوظيفة الأولى للدولة عند سبينوزا، فغاية الدولة هي الحرية. و هذه الوظيفة الإيجابية للدولة تظهر في شكلين من أشكال الدولة : دولة الحق و الدولة الديمقراطية. فدولة الحق هي الدولة التي يتلازم فيها القانون و الحق بشكل يضمن احترام الأفراد، ذلك أن دولة الحق هي شكل حقوقي يضمن الحريات الفردية و كرامة الإنسان ضد العنف و القوة، دولة تفترض أن فعل الدولة خاضع لقواعد ثابتة يكون بإمكان الأفراد فرض احترامها. أما الدولة الديمقراطية التي تجد جذورها في اليونان و تحديدا في اثينا، فهي الدولة التي يكون فيها الشعب هو الممارس الفعلي للسيادة.
غير أن الفوضويون ذهبوا عكس ذلك، إذ يرفضون الدولة و ينادون بضرورة إعادة بناء المجتمع دون دولة، ذلك ما دعا إليه برودون ( 1809 / 1864 ) و باكونين ( 1814 / 1876 )، ذلك أن الدولة حسب برودون تمثل خطرا على حرية الإنسان، فالدولة و الحرية عنده متناقضان.
أما ماركس، فعلى خلاف الفوضويين، لم ينادي بضرورة التخلي عن الدولة، ذلك أن الدولة عنده ستضمحل تدريجيا مع انتفاء الصراع الطبقي الذي أدى إلى ظهورها. إذ يرى ماركس أن الدولة أداة في خدمة الطبقات الحاكمة، فهي وسيلة قمع و هيمنة، إذ هي عموما دولة الطبقة المهيمنة إقتصاديا، لذلك فإنها ستضمحل مع انتفاء الصراع الطبقي. و هكذا، رغم اختلافه مع الفوضويين، فإن ماركس يتفق معهم في نفي الوظيفة الإيجابية للدولة.
لكن إذا كان النقد الماركسي للدولة يجد ما يبرره في الممارسة السياسية لبعض الدول الاستبدادية، و إذا كانت الدولة قادرة على الاغتراب عن غايتها النبيلة، فإنه يجب أن نعترف مع ذلك بكونها تمنع على الأقل الأفراد من الوقوع في الفوضى العامة. لذلك و وعيا بإمكان اغتراب الدولة دعا العديد من الفلاسفة إلى ضرورة نشر الوعي السياسي الحامي لمكتسبات المجتمع المدني و حقوقه، فيكون المواطن مراقبا للدولة خشية عودة النظم الاستبدادية، و من هذا المنطلق حذّر هيقل من الخلط بين الدولة و المجتمع المدني الظاهر بجلاء عند منظري العقد الاجتماعي، في حين أقر سان سيمون بأن المماهات بين الدولة و المجتمع المدني تؤدي إلى دولنة المجتمع و بالتالي هيمنة الدولة على مختلف أبعاد الوجود الاجتماعي، مما يولد نوعا جديدا من الاستبداد السياسي نعته توكفيل بالاستبداد الناعم. و هو ما يطرح مشكل علاقة الحق بالعنف
2-الحق و العنف

إن العنف يتحدّد في الاستعمال الشائع باعتباره مرادفا للقوة غير أنّ التحديد الدقيق له يتمثل في اعتباره الاستخدام المبالغ فيه للقوة. ويبدو العنف مرتبطا بالسلطة بما هي فعل تأثير ولكنه أيضا يهدّد وجودها واستمراريتها في ذات الوقت. ومادام العنف يمثل إحدى مكوّنات السلطة وبالتالي محايثا لها، فإنّه يبدو من أجل غاية نبيلة من حيث هو ممارسة سلطوية، بما أنه سيكون في خدمة العدالة. ويبدو أنّ العنف لصيق بالعمل السياسي ومرتبط بكلّ اجتماع إنساني مثلما يذهب إلى ذلك العديد من المفكرين كـ"ماكس فيبر" و"كارل سميث" و"جوليان فراند" ممّا جعل "بول ريكور" يتحدّث عن مفارقة في الوجود السياسي للإنسان فالإنسان ينبذ العنف أخلاقيا في حين أنّ وجوده السياسي يرتبط بالعنف، مفارقة تفسر اختلاف المنظرين السياسيين في تناول علاقة الحق بالعنف.
فبالنسبة إلى روسو لا يمكن أن يختزل الحق في القوة، ذلك أن القوة عنده، هي أساسا قدرة مادية و لا يمكن أن ينتج عنها أي فعل أخلاقي، لذلك فان حق الأقوى عنده هو حيلة تختفي تحت اسم الحق لتحقيق رغبات ترتبط بالمصلحة الخاصة، فحق الأقوى هو تناقض في الحدود لأنه إما أن يكون هناك حق، و بالتالي يتعارض مع القوة وإما أن تكون هناك قوة، و لن نكون عندها في حاجة إلى قانون يضبط الحق. ذلك أن القوة تجبر على الطاعة بضرورتها في حين إن الحق يجبر على الطاعة بإلزام قانوني أو أخلاقي. لذلك يرفض روسو كل سلطة قائمة على امتيازات طبيعية أو على حق الأقوى، و السلطة الشرعية بالنسبة له تنشأ عن توافق، عقد اجتماع غير متبوع بأي عقد خضوع، و الشعب ليس فقط مصدر السيادة بل هو من يمارس هذه السيادة، التي تبقى بالنسبة لروسو غير قابلة للتجزئة، فصاحب السيادة و الشعب ينتميان إلى نفس الإنسانية و لكن منظور لهما من علاقات مختلفة، أي أن كل فرد يتعاقد مع ذاته كعضو من المجتمع، و طاعة القانون هي الحرية.
غير أن هذا التصور الأخلاقي للقوة الذي يقره روسو يقابله عند سبينوزا المفهوم السياسي للحق الطبيعي. فالحق الطبيعي للفرد عند سبينوزا هو قوته و هذا المفهوم يبدو في «رسالة في اللاهوت و السياسة» قريبا من تصور هوبز الذي يقر بأن الحق الطبيعي ينحى إلى نفي ذاته، بما أن قوة كل فرد، بما هي مطلقة تنتج صراعا عاما، «حرب الكل ضد الكل». لكن في مجمل الرسالة لا يتبصر سبينوزا فكرة التحول إلى السياسي انطلاقا من تنازل كل فرد عن حقه الطبيعي، فالحق الطبيعي لا يمكن أن يختزل في تمثل أخلاقي و لا يمكن اختزاله و الحد منه سياسيا. و علم السياسة الواقعي عند سبينوزا هو الذي يأخذ حق الانفعالات بعين الاعتبار، فالانفعالات لا يمكن تجاوزها، و لا يمكن اعتبارها رذائل، و السياسة لا يجب أن تنسى أن العقل يبدأ بالحساب و الحيلة، ثم إن العقل يبحث عن مصالح كل فرد و لا يمكن أن يسير ضد القوة، و إذا كانت السياسة تتمثل في البحث عن الوسائل التي تمكن الأفراد من العيش في مجموعة وفق قوانين العقل، فإن هذه القوانين تقتضي توحيد القوى، تقتضي تكوين علاقات متآلفة تزيد في قوى فعل و فهم المجموعة و بالتالي قوى فعل و فهم كل فرد. و الأخلاق عند سبينوزا ضرورية لبناء علم السياسة لأنها تتعلّق بمعرفة الإنسان «كما هو» بانفعالاته, بتجاربه و عقله. و ما على السياسة تسييره هو اجتماع البشر تحت قيادة العقل.
لكن يجب أن نميز بين القوة التي تبقى في انسجام مع وظيفتها، ضمان البقاء و بالتالي حماية الاجتماع، و الإسراف في استخدامها الذي يجعل منها عنفا، و إذا كان موقف سبينوزا متناغما مع حقيقة الإنسان إذ أن منع الإنسان من استعمال القوة هو استدلال فاسد، فالإنسان يملك القوة من حيث هو إنسان و أن نطرد منه القوة باسم الأخلاق هو أن «نشوهه تماما كما لو طردنا منه العقل» مثلما عبر عن ذلك جوليان فراند، فإن العنف هو ما لا يمكن القبول به، فالقوة تبقى مشروعة في المجال السياسي ما لم يتجاوز استعمالها حدود القانون، و لكن عندما يحل الإرهاب و تتحول القوة إلى عنف يهدد النظام الاجتماعي فإن استعمال العنف ضد هذا العنف يكون مشروعا بالنسبة للدولة أو الأفراد على حد سواء. لذلك أقر المنظرون السياسيون أن الديمقراطية هي النظام السياسي الكفيل بحماية المواطنة
3-السيادة والمواطنة

إن فهم المواطنة يقتضي تحديدها في علاقاتها بالسيادة السياسية وبالديمقراطية وهو ما تفطّن إليه أرسطو عندما أقرّ "المواطن كما حدّدناه هو على الخصوص مواطن الديمقراطية" والديمقراطية ليست شيئا آخر عدا سيادة الشعب للشعب، وهذا يعني أن المواطن هو عنصر فاعل في الحياة العامة، عنصر فاعل في المدينة. وفي النظام الديمقراطي المواطن هو من يشارك في السيادة الشعبية، فيمارس حقّ الانتخاب ويختار التوجهات العامة في تدبير شؤون الحياة السياسية.
المواطن مسؤول إذن عن الحياة المدنية، فهو من يمارس المواطنة التي تتحدّد في هذا المنظور باعتبارها علاقة ولاء للسلطة السياسية وحماية للمواطن من هذه السلطة بما في ذلك الحماية الدبلوماسية للمواطن في غير وطنه. فالمواطنة هي المشاركة في الحياة السياسية، هي ممارسة وضمان للحقوق المدنية والسياسية، والمواطن هو فردٌ ينخرط في سلطة الدولة وفي حمايتها، وبالتالي يتمتع بحقوق مدنية ويقوم بواجبات تجاه الدولة التي ينتمي إليها. وفكرة الانتماء هذه تحيل إلى كون المواطنة ترتبط عموما بهوية وطنية خاصة، وبالتالي ترتبط المواطنة بالتحيّز الإقليمي والتاريخي الذي يعين متغيرات انتماء الأفراد.
وهكذا يمكن أن نستخلص مما تتقدم أن المواطنة تتحدد في ثلاث مستويات:
- المستوى الأوّل تتحدّد فيها المواطنة باعتبارها مثالي "بمعني قيم محفزة.

- وتتحدّد في مستوى ثاني باعتبارها مجموعة متمفصلة من المعايير السياسية والحقوقية، أي مجموعة من الحقوق والواجبات التي تضفي الواحدة منها الشرعية على الأخرى وتسهر السلطة السياسية على رعايتها بطريقة ما.

- وهي في مستوى ثالث مجموعة الممارسات الفعلية التي يقوم بها المواطنون ليشاركوا بطريقة فعالة في تنشيط الحياة الجماعية في إطار الدولة.

وباعتبارها قيم ومعايير وسلوكات اجتماعية فعلية لا يمكن القول بأنّ المواطنة طبيعية بل هي عنصر ثقافي يـُبنى تاريخيا وبالتالي مكسب يُمرّر كي يتواصل ويتطوّر، ولذلك ترتبط المواطنة بالديمقراطية وبالتالي بالسيادة.
غير أنّ ارتباط المواطنة بالسيادة يجعلها على كفّ عفريت إذ تكون وضعيتها حرجة للغاية ويمكن أن يفقدها الفرد كلما عمد إلى نسيان طبيعتها أو كلّما فسدت الديمقراطية فالسيادة عند "روسو" كما هو الحال عند "منتسكيو" غير قابلة للقسمة ثم هي مطلقة بما أنها فوق القانون، إذ هي التي ترسي القانون، والخطر يتأتى من ربط السيادة بالدولة إذ قد تتماهى السيادة مع الدولة وهذه المماهاة قد تؤدّي إلى تصوّرات تجزّئ السيادة مثلما هو الشأن مع "غروتيوس" الذي يحدّد السيادة باعتبارها مجموعة مهام يمارسها صاحب السيادة مثل سلطة "صكّ العملة"، سلطة إقامة العدالة... وكلّ المهام التي تقوم بها الدولة والتي تسمى في السجلّ السياسي الحقوقي المهامّ الملكية التي تؤسّس قوة الدولة والتي يمكن التفريط فيها، والسيادة بهذا المعنى تكون قابلة للقسمة ولذلك كان "روسّو" قد انتقد تصوّر "غروتيوس" للسيادة وأقرّ بكون السيادة كاملة وغير قابلة للقسمة. ذلك أنّ السيادة في معناها الدقيق هي السلطة العليا، و الذي يمارس هذه السيادة ليس له سلطة فوقه، فمهامه لا ترتبط بأي سلطة أعلى منه، وهو ما يتضمن كون صاحب السيادة حر بصفة كاملة و مستقل.
وهذه الاستقلالية و الحرية للسيادة تتمظهر في مستوى الحق التأسيسي في الدول الديمقراطية، فالشعب حر في أن يشرع القوانين التي يريد، وحر في أن يراجع الدستور متى شاء، بل و حر حتى في تجاوز الدستور حسب بعض الحقوقيين. كما تتمظهر هذه الاستقلالية في مستوى القانون الدولي فكل شعب حر في تقرير مصيره و يتمتع بمساواة حقوقية مع بقية الشعوب. ذلك انه إن كانت سلطة السيادة عليا فإنها بالضرورة غير قابلة للقسمة وهي حق غير قابل للتصرف إذ لا تستطيع أن تكون عليا و أن تتنازل عن جزء من سلطتها لفائدة أي جهة أخرى في نفس الوقت. و من هذا المنطلق يميّز المنظرون الثوريون في الحق التأسيس بين السلطة العليا ( السيادة) و أجهزة الدولة. فبالنسبة لـ"روسو"، الدولة لا تمثل صاحب السيادة الفعلي فصاحب السيادة هو الشعب الذي لا يقاسم و لا يفوّت في إرادته، يقول روسو «إن السيادة التي ليست سوى ممارسة الإرادة العامة لا يمكن أبدا أن تكون محل تنازل». أمّا الدولة فهي من يعطي القوة الفعلية لهذه الإرادة، ذلك أنّ روسو يعتبر أن الشعب هو صاحب السيادة من جهة كونه يمثل الإرادة العامة، و سلطات الدولة ليست إلا تعبيرات عن هذه الإرادة فالدولة لا تتكلم و لا تفعل إلا باسم الشعب و بالتالي تجد الدولة دائما حدا داخليا لفعلها. و إذا كانت السيادة غير قابلة للقسمة أو التصرّف فيها، فإننا لا نستطيع أن نقول نفس الشيء عن سلطة الدولة التي يمكن أن تقسم و يمكن أن يفوت فيها جزئيا, لذلك فإن كل خلط بين السيادة و سلطة الدولة يؤدي إلى النظم الكليانية و بالتالي تهديد المواطنة بما أن المواطنة لا تتحقق إلا في النظام الديمقراطي، لكن النظام الديمقراطي السليم الذي يسعى إلى تحقيق العدالة و المساواة.
و يجب أن نلاحظ أنه ثمة اليوم عدو آخر يترصد بالمواطنة و السيادة معا،إنه هيمنة الاقتصاد و السوق الكوني على السياسي، هيمنة تتجلى في العولمة كادعاء للكونية. وأول تداعيات العولمة على المواطنة تتمثل في تحويل المواطن إلى مستهلك في سيرورة تحويل وجهة عندما لا يتعلق الأمر بتحويل مقصود و معلن. و هذه العملية تنخرط في نزعة قوية تتمثل في الحط من شأن السياسة في مقابل إرادة الرفع من شأن السوق باعتباره المجال الكوني لسيادة المواطن. و هكذا تنحط المواطنة إلى ابخس تعبيرة عنها، و تتوقف حرية الاختيار لدى المواطن عند أنواع الاستهلاكيات في السوق, أما صناديق الاقتراع و بطاقات الانتخاب فتبدو في إيديولوجيا السوق تخلفا. و هذا الانزياح في معنى المواطنة الذي لا يكاد يرى, إذ يمرر باسم الديمقراطية ذاتها، يطرح مشكلا خطيرا على الإنساني، مشكل سلب عدد متزايد من الأفراد من مشاركتهم في السيادة، خاصة و أن الخيار الاستهلاكي لا يمثل خيارا عقلانيا بالنسبة للمصلحة العامة، لان المصلحة العامة لا تختزل في مجموع المصالح الخاصة بكل فرد، وهو بالذات ما تروج له الفردانية في النظم الديمقراطية المعاصرة حسب "توكفيل". و هكذا فإن الأفراد الذين ليس لهم الإمكانات المادية التي تمكنهم من الاندماج في المجتمع الاستهلاكي يجدون أنفسهم مستبعدين و محرومين من حق التعبير في الحقل العام مثلما عبر عن ذلك "هابرماس", والمواطنة التي كانت تمكن من تجاوز اللاعدالة في مختلف أصنافها و مختلف أبعاد الوجود الإنساني و التي كانت تمكن كل فرد من حق مساو في ممارسة السيادة الشعبية تركت مكانها للاستهلاك, و يبدو أن مجتمع السوق يعيد اليوم تأسيس نوع من حق الانتخاب الضرائبي في واقع تفشي الفساد السياسي في الديمقراطيات المعاصرة.
لقد مكننا كانط من الربط بين مستويات المواطنة، بين مواطن الدولة والمواطن العالمي بطريقة تسمحُ بالمصالحة بين الحق وكرامة الإنسان، بين هوية وسيادة الشعوب وتآزر كلّ متساكني الكوكب بما في ذلك اللاجئين السياسيين الذين حرموا من حق حماية دولة خاصة. ذلك أن المواطنة العالمية عند "كانط" تقتضي الاعتراف بالآخر كآخر، فالآخر في هذا المنظور الكانطي ليس غريبا بصفة مطلقة وليس هو نسخة مطابقة للذات، والعالمية التي ينادي بها "كانط" تصالح بين خصوصية الشعوب والغيرية، تصالح بين الهوية والاختلاف، تبرز الكوني في الخصوصي والخصوصي في الكوني. ذلك هو شرط الحوار الأصيل الذي يمكننا من تجاوز المفارقة التي أحالت إليها "حنّا أرانت" بين الحقوق الكونية والتجمّعات الخصوصية، حسبنا فقط أن ننتبه إلى الاستبداد الناعم الذي شخصه "توكيفيل" والذي هو بصدد بسط سلطانه بخطى حثيثة في الديمقراطيات المعاصرة. ولكن علينا أيضا أن نحترس من العولمة والفضاءات الجديدة التي أنتجتها لتفعل فيما بعد الحدود الجغرافية وما قد تمثله من خطر على السيادة وبالتالي على المواطنة التي لا تتحقق إلا في ظلّ الديمقراطية، فالمواطنة تتكون عبر الحوار وتبادل الأفكار وهو ما يقتضي تفكيرا مناسبا حول دور الاعلام في المدينة، خاصة وأن الاعلام اليوم يتموضع في مشهد السوق ولا يهتم أبدا بتبادل الأفكار وإنما يهتمّ بخطابات الأوغاد والحمقى مثلما عبر عن ذلك "ميشال هنري" في كتابه "البربرية"، ثم إن دكتاتورية وسائل الاتصال تمنع كلّ نقد باسم حرية الصحافة. ونخشى اليوم من أن تهيمن الديمقراطية الاتصالية وأن تهيمن وسائل الاعلام فتغيب الديمقراطية، لذلك يجب استغلال العولمة لنعلن الواجب الملح اليوم، واجب رفعه "كانط" منذ الحداثة يتمثل في بناء مواطنة عالمية تتأسّس على الثلاثية: حرية، مساواة، وإخاء، لأنه أن يكون الواحد منا مواطنا عالميا هو أن يعرف وأن يفهم وأن يشارك في حوارات المدينة الذي تمثلها اليوم "القرية العالمية" واللاّتجانس ليس حاجزا وإنما هو مثلما بيّن ذلك "إدغار موران" عامل محرّر : "إنه يجعل الامبراطوريات القديمة والحديثة تنهار ويفضل التجارب والوضعيات الجديدة".
5/الاخلاق : الخير و السعادة

مقدمة
إن المشاكل التي تطرحها المسائل العملية سواء في مسألة العمل وما تفتح عليه من أشكال الاغتراب و ربما حتى استغلال و استعباد, أو في المسالة السياسية وما تفتح عليه من اغتراب سياسي و من فساد يجعل المواطنة مجرد فكرة صورية أو مثال أعلى يُشرَّع له قانونيا، في مقابل ممارسة سياسية تحول المواطن إلى مستهلك و تجعل الدولة تستبد بالسيادة فتقضي على المواطنة كما السيادة في واقع العولمة الموجهة من قبل القوى الامبريالية في العالم, أو حتى في مستوى الممارسة العلمية التي تمثلها النمذجة النسقية و ما تفتح عليه من تهميش لمطلب الحقيقة كقيمة معرفية و العلاقات المشبوهة بين المعرفة و السلطة, و التدخل العلمي في التركيبة الجينية للنباتات و الحيوانات و حتى الإنسان من اجل تحقيق النجاعة والمردودية...
كل هذه المشاكل و ما تطرحه من احراجات و مفارقات بالنسبة لفكر كائن يتحدد باعتباره قيمة، تجعل الفلسفة الأخلاقية اليوم، و أكثر من أي وقت مضى, ضرورة حياتية إذا ما رام الإنسان الحفاظ على إنسانيته و تحقيق كونية أصيلة تصالح بين الإنسان و الإنسان, وبين الإنسان و الطبيعة في زمن الحد الأقصى من التواصل الذي غدى هو ذاته في حاجة إلى إيتيقا تنير له السبيل الأصيل لتواصل حقيقي. إن واقع الإنسان اليوم، يعلن الحاجة الملحة لعودة الفلسفة الأخلاقية و الإيتيقية، فطلب الأخلاق يبدو متزايدا اليوم, و لكن ماذا نعني بالأخلاق و ماذا نعني بالإيتيقا؟
إن كلمة إيتيقا Ethique الفرنسية من أصل يوناني، و تعني البحث عن نسق مبادئ تهدف إلى وجود خير و سعيد, في حين أن كلمة أخلاق Morale الفرنسية من أصل لاتيني، و تتحدد كنظرية في الجبر، نظرية في القانون و الواجب الأخلاقي باعتباره لا مشروط و كوني. و يجب أن نلاحظ أن الإيتيقا تشهد اليوم أكثر حظوة في مقابل احتشام الاهتمام بالأخلاق. و الإيتيقا اليوم تفيد عموما النظرية العقلانية حول الفعل و الحياة الخيرة و بالتالي تتمثل في دراسة مشاكل القيم التي تطرحها مسائل المحيط (إيتيقا المحيط) و الممارسات الطبية (البيوايتيقا)... ذلك أن القانون الأخلاقي و الـجبر الأخلاقي يشهد اليوم تراجعا أمام الحياة الخيرة. و من هذا المنطلق يبدو من المشروع بالنسبة إلينا أن نطرح المشكل الإيتيقي الذي يتعلق بالخير و السعادة و إذا كان الخير الأسمى هو المطلب الأساسي في الفعل الأخلاقي , ففيما يتمثّل هذا الخير الأسمى؟ هل يتمثل في الخضوع لأوامر الواجب أم في تحقيق السعادة ؟ أليس الإقرار بأن السعادة هي الخير الأسمى هو نفي لصفة الأسمى على الخير مثلما بيّن ذلك كانط؟ ألا تمثّل نسبية السعادة حاجزا يعوق توحّدها مع الخير الأسمى و بالتالي تقضي بضرورة الفصل بين الخير و السعادة و بين الأخلاقية و السعادة على أساس لا تحدد السعادة؟ و بهذا المعنى ألا يكون الخير الأسمى باعتباره الأخلاقية شرط السعادة دون أن يتماهى معها ؟ ثم كيف نعرف ما هو خير، هل يتعلق الأمر بالخيرات أي بما يريد الفرد تحقيقه لذاته آو حتى ليتقاسمه مع الآخرين؟ أم هل يتعلق الأمر بخير فعل ما سنفعل, وهو ما يحدد الفضيلة عند الرواقيين؟ أم هل يتعلق بمثال الخير، الخير في ذاته باعتباره الغاية القصوى لكل فعل ممكن مثلما ذهب إلى ذلك أفلاطون؟ و كيف يمكن أن نحدد الخير خارج علاقته بالسعادة؟ ثم قبل ذلك ما هو مصدر القيم الأخلاقية، هل هي واردة من أفق متعال أم أن الإنسان واضعها ؟
I مصدر القيم الأخلاقية:

إن القيم الأخلاقية، من الزاوية المنطقية، يمكن أن تكون صادرة إما عن كائن متعال وهو موقف شائع تربط فيه الأخلاق بالدين، موقف بينت المقاربات الموضوعية تهافته، وإما الإنسان وهو الأصل الذي يعترف به الفلاسفة و المفكرين. غير أن المفكرين والفلاسفة وإن اتفقوا على كون مصدر الأخلاق هو الإنسان فقد اختلفت رؤاهم فمنهم من اعتبره الإنسان كعقل ومنهم من اعتبره الإنسان كرغبة ومنهم من اعتبره الإنسان كمجتمع.
1) كانط: العقل:

يريد كانط أن يحدد المبدأ الأساسي لكل فعل أخلاقي أي المبدأ الصوري الذي تستمد منه القواعد الأخلاقية, فهو إذن على خلاف الفلاسفة لا يقدم نسقا أخلاقيا يضبط فيه الواجبات الأخلاقية وإنما يبحث في المبدأ الأساسي لكل فعل أخلاقي, لذلك يطرح كانط سؤال يتعلق بالمفهوم المركزي الذي تدور حوله الأخلاق ليجيب بأن الواجب هو هذا المفهوم, فالواجب عند كانط هو جوهر التجربة الأخلاقية. والواجب يمثل الجبر الأخلاقي في ذاته بقطع النظر عن تطبيقاته وعلى هذا الأساس يتحول سؤال ما هو مصدر الأخلاق؟ مع كانط إلى ما هو مصدر الواجب؟
الواجب كمفهوم يتسم بالكونية والضرورة لا يمكن أن يكون حسب كانط نتيجة للتجربة والخبرة ذلك أن الكونية والضرورة هي ميزات ما هو قبلي فالواجب عند كانط هو إذن مفهوم قبلي. كمفهوم قبلي لا يمكن أن يكون الواجب صادرا إلا على العقل، لذلك يميز كانط بين الأمر الشرطي والأمر القطعي, فالأول هو أمر يربط بين الفعل والمنفعة التي تتحقق منه وهذا يعني أن الفعل وفق الأمر الشرطي لا يكون ضروريا بصفة محضة فهو ضروري لتحقيق غاية ولذلك لا يعبر الأمر الشرطي عن الواجب باعتباره كوني وضروري. فالواجب ككوني وضروري لا يمكن أن يكون إلا أمرا قطعيا يأمر دون شرط فهو يضبط الإرادة بالقانون وهذا يعني أن الأمر القطعي وحده يمثل قاعدة أخلاقية بالنسبة لكانط.
2) دوركايم: المجتمع :

أما في المنظور السوسيولوجي فإن مصدر الواجب والأخلاق هو المجتمع، إذ ينفي دوركهايم أن يكون الواجب صادرا عن العقل أو عن الدين, فمن هذا المنظور تجد الأخلاق مصدرها في المجتمع. وتناول دوركهايم للمسألة الأخلاقية يجد منطلقه في تحليل الضمير باعتباره ملكة الحكم القيمي على أفعالنا, فالضمير يمثل صوت الواجب ويعبر عن الخاصيتين الأساسيتين للواجب:
- كون الواجب خارج عن الفرد والدليل على ذلك أن الواجب لا يتطابق في كل الحالات مع طبيعة الفرد ومزاجه.

- القهر والإلزام ( ضد كانط لأنه يفصل بين الواجب والعقاب فالقيام بالواجب لتجنب العقاب هو خضوع لأمر شرط في حين أن الواجب أمر قطعي) وهذه الميزة تظهر فينا بتأنيب الضمير عندما لا نخضع للواجب وتأنيب المحيطين بنا. ويجب أن نلاحظ أن صفة القهر والإلزام هي في الحقيقة صفة ملازمة لكل الظواهر الاجتماعية بالنسبة لدوركهايم.

الواجب بما هو خارج عن الفرد وبما هو متميز بالقهر يجد مصدره في المجتمع, فالمجتمع هو الذي وضعه فينا بالتربية والتنشئة. وهكذا يرجع دوركهايم الأخلاق كظاهرة اجتماعية إلى الضمير الجمعي وتتحدد في نهاية الأمر باعتبارها وظيفة في المجتمع , فالأخلاق تقوم بوظيفة خلق التماسك والوحدة الاجتماعية لذلك يحدد دوركهايم الخير باعتباره الأخلاق وقد تمثلت شيئا حسنا والمجتمع هو الخير باعتبار أن المجتمع حقيقة أثرى من حقيقة الفرد, إذ بالاجتماع يحقق الإنسان إنسانيته.
لكن إذا كان كانط أسس أخلاق صورية قال عنها هيجل أنها غير صالحة ولا تجعل الفعل ممكنا فإن دوركهايم قد أهمل- عندما حدد مصدر الواجب باعتباره المجتمع-التفاعل بين الوعي الفردي والوعي الاجتماعي إذ تبين لنا التجربة أن الفرد، و في كثير من الحالات، هو الذي يبادر بإرساء قيم تصبح عامة بموجب التكرار والتعود.
3) نيتشه: إرادة القوة:

الأخلاق الحق عنده تتجاوز حقل الواجب لأن الواجب هو تقنين السلوك الموجه ضد الحياة. فالإنسان عند نيتشه هو قبل كل شيء إرادة القوة لذلك يسعى إلى تفسير نشأة الأخلاق المثالية جينيالوجيا بإرجاعها إلى أصلها لكن إذا كانت الأخلاق صادرة عن إرادة القوة فكيف تكون أخلاق الفلاسفة المثاليين موجهة ضد الحياة؟
إن إرادة القوة عند نيتشه منشطرة إلى إرادة حياة وإرادة عدم وهذا الانشطار ناتج عن دينامية الرغبة ذاتها بما هي ماهية الإنسان, فالرغبة كرغبة تسعى إلى الإشباع وبالتالي تفتح على اللذة فتتحدد باعتبارها إرادة حياة، فالإشباع هو تمجيد للحياة و إقرار لها، و لكن أيضا، الرغبة كرغبة تبحث عن الإشباع تنفي موضوعها و بالتالى تفتح على الموت فتتحدد كإرادة عدم.
إرادة القوة عندما تكون في أوجها وصاعدة تناشد الحياة وتمجدها لأنها قادرة على فرض سلطانها وقوتها لكن بما أن كل قوة مآلها الضعف و بالتالي الانحطاط فان إرادة القوة الواهنة تنتج القيم والأخلاق, أخلاق الشفقة كحيلة للمحافظة على بقائها فتنقد اللذة والرغبة وتحاصرها ومن هنا تظهر حسب نيتشه نقمتها على الحياة, هذا يعني أن نيتشه يرجع كل وجود إما إلى القوة وإما إلى الضعف والضعف هو مصدر أخلاق الشفقة لذلك ينظر نيتشه لأخلاق الأقوياء, الأخلاق التي تقوم على القوة وإرادة الحياة، ذلك أن أخلاق الشفقة تمنع الإنسان من بلوغ أعلى درجات القوة و البهجة و بالتالي السعادة.
و هكذا نتبيّن اتفاق كل المقاربات الفلسفية حول اعتبار القيم جوهرية وأولية في الأخلاق, فحتى المقاربة الجينيالوجية التي طرحت قيمة القيمة ونقدت القيم انتهت إلى وضع القوة كقيمة. والفعل الأخلاقي عند الفلاسفة هو الفعل الذي يتطابق مع مبادئ الخير. لكن فيما يتمثل هذا الخير؟ في الواجب أم في السعادة؟ وما هي طبيعة العلاقة بين الخير والواجب والسعادة؟
II الخير و السعادة:

1) السعادة كواجب :

إن الأنساق الأخلاقية السابقة لكانط ترى في السعادة غاية كل فعل إنساني، فهي الخير الأسمى لذلك تسمى أخلاق أودونية. في حين يعتبر كانط أن الفعل الأخلاقي هو الفعل الذي يقوم بالواجب من أجل الواجب .فهل يعني ذلك أن القيام بالفعل من أجل تحقيق السعادة هو فعل لا أخلاقي؟
يلاحظ كانط أن السعادة بما هي حالة كمال هي مفهوم غامض لأنه يرتبط بالتجربة فالسعادة عنده هي مثل أعلى لا للعقل بل للتخيل يقوم على مبادئ خبرية فحسب. فالسعادة إذن، ليست مفهوما عقليا وترتبط برغد العيش، لذلك لا يمكن تحديدها, فرغد العيش يختلف من شخص إلى آخر بحسب خبرته وميولا ته لذاك يرى كانط أن السعادة ليست من مجال الأخلاق, فمجال الأخلاق هو مجال ما هو عقلي, كوني وضروري أي واجب. ومجال السعادة حسب كانط هو الدين لأن السعادة هي موضوع أمل و من حق الإنسان ككائن رغبة أن يأمل في أن يكون سعيدا دون أن يناقض ذلك الواجب. فما هو أولي بالنسبة لكانط هو الأخلاق الكونية ولا يهدف أي فعل في المجال العملي إلا إلى تحقيق الفضيلة باعتبارها طاعة الأمر القطعي. لكن ذلك لا يمنع من أن تكون مقولات العقل العملي مقبولة في حقل الأخلاق وهو ما يضفي مشروعية على البحث عن السعادة. يقول كانط: «الأخلاق ليست إذن نظرية تعلمنا كيف يجب أن نكون سعداء ولكن تعلمنا كيف يجب أن نكون جديرين بالسعادة, ذلك أننا لا نأمل في تحقيق السعادة إلا بتدخل الدين». وهكذا يكون البحث عن السعادة عند كانط أمرا مشروعا وواجبا في معنى ما بما أن التعاسة ليست ظرفا مناسبا للقيام بالواجب. السعادة كموضوع أمل بالنسبة لكانط لا تتحقق في الأرض و تبقى موضوع أمل مشروع ليس إلا. و هكذا يرتبط كانط الحرية بالعقل، فالإرادة الخيرة هي التي تخضع لإرادة القانون العقلاني والكوني أما الإرادة التي تخضع للرغبات الحسية فهي إرادة مرضية بالمعنى الكانطي أي لا تخرج عن تأثير الحواس, فالحرية والعقل لا ينفصلان عند كانط الذي يقول : "الحرية هي خاصية إرادة كل كائن عاقل"، وبالتالي لا تكون السعادة بالنسبة لكانط شأنا سياسيا.
2) في تضايف الخير و السعادة :

غير أن أرسطو على خلاف كانط يرى أن تحديد الخير يقتضي اعتباره من جهة كونه غاية جماعية لا فقط كغاية فردية, ذلك أن الإنسان عنده هو حيوان اجتماعي, و من هذا المنطلق تعتبر الإيتيقا بالنسبة إليه معرفة متعلقة بالفعل, و ترتبط بالخير الأسمى الذي يمثل غاية كل فعل إنساني, والخير الأسمى هو السعادة, و هكذا فإن السعادة عند أرسطو تتمثل في فعل عقلي يتحدد في التأمل كنشاط عقلي, الذي يتماهى و الفضيلة. يقول أرسطو "إذا لم تكن السعادة حقا إلا الفعل المطابق للفضيلة، فمن الطبيعي أن يكون الفعل المطابق للفضيلة التامة، أعني فضيلة الجزء الأعلى من الإنسان". وهو ما يعني أن السعادة هي نتيجة الحياة الفاضلة. وبما أن الفضيلة ترتبط بالتأمل العقلي الذي يمثل ما هو أعلى في الإنسان، فإن السعادة تتجاوز اللذة الحسية البسيطة من جهة كون اللذة مؤقتة في حين أن السعادة لا زمنية ودائمة، والتأمل العقلي هو الذي يحقق ثباتها دوامها. وبالتالي فإن الحكيم الذي يتأمل الخالد في حياة رفاه يجسد الإنسان السعيد. وهذا الموقف الأرسطي ينخرط في التصور الإغريقي الأودوني Edémoniste الذي يقر بأن السعادة هي غاية كل فعل، وتتحدد السعادة باعتبارها تطابق بين الإنسان ونظام الطبيعة. ولكن يجب أن نلاحظ أن أرسطو يربط بشكل صريح البحث عن السعادة بالتنظيم العقلاني للحياة الاجتماعية. فالإيتيقا ترتبط بالسياسة، وخير الفرد يتوقف على الخير الأسمى للمدينة وبالتالي للدولة. وبما أن السعادة هي مثال أعلى وهدف، فإنه من الضروري تعميمها وأنسنتها وبالتالي تسييس البحث عن السعادة.
تلك هي أيضا وجهة نظر الموقف النفعي. ذلك أن اشباع اللذات لا يقود إلى السعادة إلا في إطار المصلحة العامة. والنفعية هي موقف جيريمي بنتام Jeremy Bentham الذي انتهى إلى تجريد القيم الأخلاقية من كل أساس مرجعي متعال، بما أن المبدأ الأخلاقي الوحيد عنده هو مبدأ المنفعة بمدلولها الخاص و الفردي. و رغم تأكيده على دور الدولة في ضمان النفع لأكبر عدد من الأفراد، فإن بنتام يخلص إلى أنه يجب على الفرد أن يتحقق من المنفعة التي تعود عليه هو ذاته من الفعل قبل أن يقوم به. ومن هذا المنظور المادي يذهب بنتام إلى التأسيس "لعلم حساب اللذة والآلام"، قاصدا أن يكون معيارا لقياس السلوك الأخلاقي والعملي قياسا كميا. وبما أن المبدئية الأخلاقية هي المنفعة، فقد كان لازما على هذا العلم أن يؤسس لطريقة تمكن من قياس اللذة، تلك التي يصنفها بنتام إلى نوعين "متجانسة" و"غير متجانسة ويحرص بنتام على التأكيد على أن مقياس الكم قابل لقياس ما يسميه باللذات المتجانسة، غير أنه عندما يبحث اللذات غير المتجانسة، كلذة القراءة مثلا وغيرها فإنه اعترف بصعوبة حسابها كميا. لذا نجده يبحث عن مقياس آخر يقاربها به والمقياس البديل الذي وضعه لا يخرج عن الرؤية الكمية النفعية التي تحكم منظوره ككل؛ ذلك أنه رأى أن هذه اللذات غير المتجانسة يمكن قياسها بـالمال أي أنه يجب على الفرد أن يقيس تلك اللذة بمقدار ما يصرفه من مال لتحصيلها، فإذا كان المبلغ المالي الذي تحتاجه مكلفا يجب أن يعرض عنها إلى لذة أقل منها كلفة.
و جون ستيوارت ميل John Stuart Mill، الذي يحدّد السعادة من زاوية مادية وجماعية، والذي يستعمل مفهوم الخير باعتباره مجموع الخيرات التي يمكن الحصول عليها يسير في نفس اتجاه بنتام عندما أقر : "نعني بالمنفعة امتلاك أي شيء ننحو بفضله إلى تحقيق مصلحة، مكسب، لذة، خيرا او السعادة". وهو موقف غير بعيد على التصور الابيقوري، الذي يحدّد السعادة باعتبارها اللذة وغياب الالم تماما مثل التعاسة باعتبارها "الالم والحرمان من اللذة". إذ يعتبر أبيقور أن اللذة هي بداية الحياة السعيدة وغايتها فهي الخير الأول ومعيار الخير, فاللذة عنده هي إذن شرط الخير والخير شرط السعادة لكن بالتوازي اللذة هي الخير وهي السعادة بما أنها طبيعية في الإنسان. لكن عندما يعتبر أبيقور أن اللذة هي الخير لا يجعل من اللذة غاية كل فعل أخلاقي أي أنه رغم كونه يعتبر اللذة هي الخير الأول لا يقدم نظرية هيدونية لأنه يقدم اقتصادا كاملا في اللذة. فنحن لا نبحث عن اللذة إلا لندفع الألم لذلك فالسعادة عند أبيقور لا ترتبط باللذة الحسية فحسب وإنما تقتضي الحكمة التي توجهنا في إشباع اللذات.الحكمة واللذة هي طريق للسعادة التي تمثل عند أبيقور حالة تتميز بغياب الألم وبالتالي بغياب اللذة يسميها الأتراكسيا..
3) السعادة و الرفاه :

إن ما يجعل السعادة مثال أعلى، بالنسبة للنفعية، هو كونها مقصودة وفق إستراتيجيا جماعية و كونها ترتكز على الاعتقاد في التقدم التقني و الاقتصادي. ذلك أن تفاؤل فلاسفة الأنوار، جعلهم يربطون السعادة بتطور المعرفة و الذكاء الإنساني، تفاؤل يجد في إقرار روسو بخيرية الإنسان سندا له، مما جعل روسو يؤكد في كتابه «إيميل» على دور التربية في تحقيق سعادة الطفل، إذ ينادي روسو بضرورة ترك الطفل يتطور وفق طبيعته الخيرة. وهو ما يؤكد أن السعادة هي أساسا مثال أعلى، فكرة، شيء علينا تحقيقه لا فقط بالنسبة للأفراد بل لكل الناس، و من هنا بالذات يحصل الإنزلاق الذي يجعلنا نتحول من الإنسانية إلى النفعية كما تجلت عند بنتام وميل، ثم إلى المادية الصرفة و الفردانية التي غدت فيها السعادة اليوم مرادفة للرفاه.
فأن نعتبر الخير كمجموع الخيرات التي يمكن الحصول عليها، و أن يبحث كل فرد عن أكثر لذة و أقل عناء، هو أن نعتبر سعادة الفرد جزءا من الرفاهة العامة. ذلك أن النفعية تتحدث عن السعادة في المستوى الاجتماعي، و بالتالي السعادة لكل الناس رغم كونها تختزل الخير في النافع. فالنافع هو ما يمكن من تحقيق الخير، وهو مفهوم سبق أن تحدث عنه أبيكتات و حتى سبينوزا، فالحكيم الرواقي يبحث عن النافع. غير أن النافع عند إبيكتات كما عند سبينوزا لا يرتبط بما هو مادي، في حين ننظر اليوم إلى النافع باعتباره نافعا ماديا. ذلك أنه بالنسبة للنفعية، لكي تكون السعادة شيئا يمكن توزيعه بطريقة عادلة بين الناس، يجب أن تكون مادية، فلكي تكون قابلة للقسمة يجب أن تكون قابلة للقياس، و بالتالي تتماهى السعادة مع الرفاه في المجتمعات الاستهلاكية.
4) في تجاوز النفعية و سعادة الرفاه :

إن الفردانية ليست فقط واقع ولكنها أيضا مثال أعلى، وإتباع حاجات الفرد كعنصر في المجتمع ليست فقط أمرا مقترحا بل يقدم كخير مطلق. فالمجتمع الاستهلاكي ليس فقط مادي، وذو نزعة مادية لأنه يكرس خطابا يسعى من خلاله لإقناع كلّ الأفراد، بل انه مثالي بطريقته، بما انه يقدم الرفاه كمثال أعلى، رفاه فردي ولكن رفاه فردي لكلّ الناس. وخطاب السوق هذا، ككل خطاب أيديولوجي، يزعم انه يقدم أجوبة لكل التساؤلات. وحول السؤال الذي قد يطرحه كلّ واحد منا: ما السعادة؟ يجيب يجتمع مجتمع السوق بدلا عنا. وإجابة المجتمع الاستهلاكي تقدم لنا مثالي السعادة كرفاه، وبهذه الكيفية يكون لكلّ الناس نفس مثالي السعادة. في حين أن كانط عندما أقرّ بان السعادة هي مثال أعلى للتخيل، كان يؤكّد على كون السعادة شأن شخصي. ولا يجب بالتالي أن نخلط بين تحقيق الرفاه وتحقيق السعادة. ثم إن المجتمع الاستهلاكي عندما يقدم مثال أعلى للسعادة الفردية كرفاه، ينولّد عن ذلك اغتراب الأفراد بالنسبة للاجتماعي، إذ يصبح لهم نفس المثالي الشخصي. والمجتمع الاستهلاكي الذي يدفعنا للفردانية، يدفعنا جميعا كالقطيع، وهذا النوع من الفردانية ليس مرادفا بالضرورة للتسيير الذاتي وللحرية.
لذلك لابدّ من مراجعة طرح مسألة السعادة، بالعودة أولا إلى الفصل بين الايتيقيا والأخلاق، إذ لماذا تكون السعادة مسألة ايتيقية؟ لماذا علينا أن نختار بين أخلاق واجب وإيتيقا سعادة؟ لماذا لا يمكن التفكير فيهما معا؟ وبالتالي المصالحة بين الواجب والسعادة، بين الحرية وبالتالي الفردانية الحقة والخضوع للجبر الأخلاقي من جهة كونه طريق الكونية والانسانية.
إن السعادة تطرح باعتبارها مثال أعلى وبالتالي لا كشيء معيش، وذلك ليس غريب بما ان السعادة تتحدّد كحالة اشباع كامل ومتواصل في الزمن، و كحالة اكتمال لا يمكن أن تكون السعادة شيئا معاشا، ولكن مع ذلك لا يجب الزهد في طلبها مثلما بين ذلك فرويد. إن السعادة هي حالة الرضاء التام والامتلاء لذلك تختلف عن اللذة التي هي رغد مستحب من طبيعة حسية. وإذا كانت السعادة تعني راحة تامة وتتقدم باعتبارها الخلود ذاته فإن اللذة زمانية فهي حركة ودينامية قد تطيلها وتضخمها الذاكرة والخيال, لكن السعادة تختلف أيضا عن الفرح ففي حين أن اللذة مجزأة فإن الفرح هو حالة وجدانية إجمالية إذ تمثل كما بين ذلك سبينوزا التحول من حالة كمال منقوصة إلى حالة أرفع منها, حالة تزيد فيها قوة فعل الجسد,أما السعادة فإنها ليست تحولا فالفرح ديناميكي في حين أن السعادة ستاتيكية فالسعادة التامة تبدو إذن مسألة يصعب تحقيقها رغم كون الأنساق الهيدونية كانت تقدم طرائق يفترض أنها تحقق السعادة كذلك الشأن الأبيقورية مثلا. و إذا كانت السعادة هي حالة الإشباع التام لكل الرغبات فإن ذلك يعني أن سبيل تحقيقها هو القضاء على كل ألم وإذا كان أبيقور ينظّر في أخلاقه إلى طرق تمكن من تجاوز الألم حتى وإذا كان ذلك بطريقة واهمة عبر الخيال والتخيل والتذكر فإن فرويد ينفي ذلك إذ يبدو أن الألم يتمادى مع الوجود الإنساني، إذ يجد مصدره في قوة الطبيعة وشيخوخة الجسد بل حتى في سلاح الإنسان ضد هذين المصدرين أي الحضارة, فالألم إذن يوجد في التركيبة النفسية للإنسان لكن إذا كان الألم متماد مع الوجود الإنساني فإن ذلك لا يجب أن يؤدي بنا إلى الزهد في الحياة وفي طلب السعادة إذ يبدو حسب روسو أن سعادة الإنسان لا تتحقق في السكينة التامة واستكمال الملذات بل تتحقق بالمكابدة والمجاهدة لأن الحياة التامة التي تتحقق فيها كل آمالنا و أحلامنا تعني الموت لأننا عندها كون محرومين من لذة الرغبة.
و هكذا يمكن القول أنه، وفي مقابل السعادة، يتقدم الفرح كشيء معيش. وبالتالي كحالة ديناميكية غير ستاتيكية مثلما هو شأن السعادة. ولعلّ تفكير سبينوزا في الفرح وعلاقته بالمعرفة يمكننا من الجمع بين الواجب والسعادة فالمعرفة هي مجال الحرية الحقة بالنسبة إلى سبينوزا، والفعل الحسن عند سبينوزا هو البحث عما يسميه بالنافع الخاص، ولا يتعلق الأمر بالخيرات الخبرية التي تؤدي إلى الاغتراب مثل اللذة والشرف والثراء، بل على العكس من ذلك النافع الخاص يزيد من قوة فعل الفرد وقوة فعل المجموعة، والعقل هو الذي يحدّد هذا النافع الخاص، إذ المعرفة هي التي تمكن الفرد من أن يحقق ذاته بحسب رغبته، فالإنسان الحر حسب سبينوزا هو من يرغب في الخير. يقول سبينوزا "إن الإنسان الحر يرغب في العقل، في الحياة، في المحافظة على كيانه على أساس البحث عن النافع الخاص، هو ذاك الذي لا يفكر في الموت بل إن حكمته هي تأمل في الحياة"، وهذا الوجود الحر والسعيد والعقلاني هو جائزته، وليس هو نتيجة حساب، انه التعبير من الفرد ذاته عندما يحقق ذاته ذلك أن "الغبطة ليست جائزة الفضيلة ولكن الفضيلة ذاتها، ونحن لا نعيش الفرح لأننا نمنع رغباتنا الحسية، بل عكس ذلك لأننا نعيش الفرح نستطيع منع هذه الرغبات" والغبطة باعتبارها أرقى درجات الفرح تتقدم كحكمة ثابتة، والإنسان الحر يحقق الغبطة لأنه يحقق كمال ذاته.

هناك تعليق واحد:

  1. نعم ولكن هناك بعض الجوانب التي تغافلت عن ذكرها
    يمكنك الإطلاع علي هذا التلخيص من موقع #عالم-البكالوريا
    https://3alemlbac.blogspot.com/2020/08/Philobac.html?m=1
    يقدم تلاخيص فلسفة،عربية، تاريخ، جغرافيا ، تفكير اسلامي، بكالوريا، اداب،ملخصات، دروس

    ردحذف

يتم التشغيل بواسطة Blogger.